يغرق عالمنا اليوم في دوامة من الصراعات والحروب وتتعالى دعوات التفرقة والعنصرية التي تركز على الاختلاف وتعدد الهويات وأصبح إلغاء الأخر الطريق الوحيد لتأكيد الذات...وكأن العالم لا يتسع للكل. فتصبح الهويات المتنوعة للبشر "هويات قاتلة" كما أسماها الأديب أمين معلوف الذي تساءل إن كان " قانون الطبيعة أم قانون التاريخ الذي يحكم على البشر بالتناحر باسم هويتهم؟" البشر كانوا ولا يزالون مختلفين في انتماءاتهم وأفكارهم وأعراقهم ولن يكون لذلك تغيير ولا تبديل فهل سيكون الصراع والتناحر أزليا إذا؟ لذلك علينا أن نعي أن الإنسانية إذا توصلت في يوم ما لتفادي مظاهر الصدام فليس لذوبان الفروق التي ستظل قائمة دائما وأبدا ولكن ببساطة لأنها توقفت على أن تكون سببا للصراع. فأي هوية تمكننا من التعايش والمشاركة وإثبات الذات دون إلغاء الآخر؟ أي هوية تجعلنا نتناغم مع أنفسنا ومع الأخر ومع الكون؟ تمثل الهوية الفردية تشابها وفرادة في آن حيث يوجد ثلاث مستويات للهوية: هوية فردية لا يشبه فيها الفرد أحدا آخر، هوية جماعية يشترك فيها بجملة من الخصائص مع أعضاء المجموعة التي ينتمي إليها عرقيا أو دينيا أو اجتماعيا ..... وهوية كونية يشترك فيها مع باقي البشر في العالم. المستوى الأول والثاني يطرح الهوية كمعطى محدود أما المستوى الثالث فيفتح أمام كل فرد البحث عن المشترك بين كل البشر ويخاطب الإنساني فينا ويسمح لنا بتوسيع آفاق تفكرنا وأفعالنا وطموحنا وغاية وجودنا وهدفنا في الحياة ويوسع انتماءنا فتكون الإنسانية المبدأ الأخلاقي المطلق حيث يقول كانط " تصرف بحيث تعامل الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك كغاية دائما وليس كمجرد وسيلة مطلقا." على هذا الأساس تكون الهوية الإنسانية أساسا لوحدة الجنس البشري وحدة لا تعني التطابق والانصهار بل الوحدة في الاختلاف فليس الهدف هو إزالة الفروق وحالات التنوع والتعدد بل إيجاد فضاء للتعايش والتعاون والتكامل وإيجاد منهجية للتعامل مع الاختلافات والتنوعات قوامها التسامح والحوار والمشورة والمساواة. وهي منهجية تساهم في توسيع مساحات التعاون والتكامل بين مختلف الأفراد والجماعات. على أن هذه الوحدة تفترض نضجا فرديا و اجتماعيا فالصراعات لا يكون سببها الاختلاف في ذاته بل الرؤية المشوهة والتعامل القائم على انعدام التسامح والعنصرية والتعصب. هذا الفضاء لن يكون سوى مدنية جديدة يكون أساسها الوحدة بين البشر بغض النظر عن تنوعاتهم وترسيخ مبدأ المشورة والمشاركة بين أفراد المجتمع. ومن ثم إرساء نظام عالمي جديد غايته تحقيق المصالح المشتركة للإنسانية قوامه جملة من المبادئ التي تعيد تنظيم العلاقات بين الدول وأركانه منظمات دولية هدفها ضمان السلم العالمي وإيجاد لغة عالمية ثانوية حتى يسهل التواصل بين الشعوب. إن ذلك النضج الفردي والجماعي يجعلنا نرى في الوحدة ترجمة لقوانين الكون فالنظرة المشوهة القائمة على التنافس ورفض الأخر يجب أن تعوض بنظرة أخرى للعالم نرى من خلالها الإنسانية جسدا واحد وأوراقا وأثمارا لشجرة واحدة وحديقة تكتسب جمالها ورونقها من تباين ألوانها وأثمارها. إن هذه الوحدة ليست من باب المثاليات واليوتوبيا بل هي تناغم مع نظام الكون وقوانينه القائمة على التكامل . فالمتأمل في جمال وكمال الموجودات يراها مركبة من أجزاء متنوعة إذا احتفظت بوحدتها وتكاملها حافظت على حياتها أما إذا أصيبت تلك الأجزاء بالتفكك والتشظي أدت إلى التحلل ومن ثم الفناء. وهذه الموجودات نفسها تتفاعل وتتكامل لتكوّن العالم من حولنا وتصنع الحياة. فالطبيعة متنوعة تتفاعل عناصرها بتناسق من أجل ضمان استمرارية الحياة على وجه البسيطة فتتعاقب الفصول بمواقيت محددة، تتبخر مياه الأرض لتنزل أمطارا من السماء، تغيب الشمس وتبزغ ليكون الليل والنهار ....أما إذا أرجعنا البصر داخلنا، داخل أجسادنا لوجدناها متكونة من أعضاء وأجهزة تعمل بتشارك وانتظام لتبقي الجسم حيا ...ففي الاتحاد دائما حياة والتفرق والانقسام هو علة العدم. هويتي إنسانيتي غايتي وحدتي مع باقي البشر منهجي تسامح ومحبة ومشاركة ومشورة هدفي الأسمى إصلاح العالم ....جملة أقولها لنفسي فيها الكثير من المثاليات والمبادئ التي بقي أكثرها شعارات تردد ولا تتحقق ولكن يبقى الأمل، ولنتذكر دائما أن أهم الإنجازات بدأت بفكرة وتحولت لحقيقة ...فإذا سعى كل واحد منا إلى ذلك الهدف الأسمى بمسؤولية وبصدق ربما سنجعل عالمنا في يوم من الأيام أجمل. باحثة مختصة في الديانات المقارنة