يوصفُ مصطلحُ (بيت القصيد) أو (بيت القصيدة) في المدوّنة النقديّة العربيّة القديمة بأنّه الجوهرُ الشعريُّ الذي تتركّز المقولة الشعريّة فيه تركيزاً عالياً إلى درجة التقطير، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من تكثيف في الرؤية والرؤيا، ومن مهارة تفاصيليّة في التشكيل على مستوى الحفر الماهر في أعماق المفردة وطبقاتها وجذورها وجيوبها وظلالها وزواياها، وشحنها بأكبر طاقة تعبير ممكنة، وتفجير إمكاناتها الفنيّة والجماليّة داخل كينونتها الدوالّيّة من جهة، وفي سياق تعالقها وتفاعلها وتزاوجها مع ما يجاورها وما يحاذيها من مفردات نحو تشكيل الجملة الشعريّة، واللقطة الشعريّة، والمشهد الشعريّ، والنصّ الشعريّ، والخطاب الشعريّ من جهة أخرى. الشاعر هادي دانيال في قصيدته الموسومة ب ((بيتُ القصيد))(*) من مجموعته الشعرّية ((عندما البلادُ في الضباب والذئاب))، تجتهد في إعادة إنتاج المصطلح النقديّ العربيّ القديم على نحو جديد تكون فيه القصيدة القصيرة المتكاملة هي (بيت القصيد)، لكننا إذا ما عاينّا عنوان المجموعة الشعريّة (عندما البلادُ في الضباب والذئاب) سيخطر في بالنا النقديّ التأويليّ أنّ قصيدة (بيت القصيد) هي بيت القصيد في المجموعة عامّةً، على نحو يتيح لنا أن ننظر إلى المجموعة الشعريّة وكأنّها قصيدة واحدة يمكثُ بيت القصيد (القصيدة) في مكمن شعريّ متجوهر من مكامنها، وهو ما يقودنا إلى قراءة العنوان الكلّيّ الشامل للقصيدة الكبرى (عندما البلادُ في الضباب والذئاب)، لاستخلاص العلامة التكثيفيّة المُلهمة ل (بيت القصيد) في سياق سيميائيّ بنيويّ يخدم الفكرة ويجيب على أسئلتها الشعريّة. تبدأ عتبة العنونة بدالّ ظرفيّ زمانيّ (عندما) يتصّل مباشرة بدالّ مكانيّ جمعيّ مفتوح على فضاء التدليل بلا حدود (البلاد)، ومن ثمّ سرعان ما يأتي حرف الجرّ (في) ليضيّق مساحة الانفتاح المطلق لدالّ (البلاد) ويحصرها بين فكّي (الضباب والذئاب)، كي يتنازل عن فضائيته وسعته وحدوده المفتوحة على الأفق، ويُختزل في إطار دالّ الطبيعة (الضباب) إلى محدوديّة الرؤية وتركيزها في أضيق مساحة بصريّة مكانيّة قادرة على الرؤية، إذ يتعرّض الجسد الساعي إلى المعرفة والوصول لإكراة على صعيد الرؤية والاحتماء، لأنّه داخل فضاء (الضباب) سيكون معرّضاً ومهدّداً ومحاصراً على نحو يحتاج فيه إلى المغامرة. يأتي الدالّ الجمعيّ الحيوانيّ (الذئاب) ليكون شريكاً فاعلاً لدالّ الطبيعة (الضباب) في إنتاج المعنى المقصود لوصف (البلاد)، وهو يضاعف من معنى الحصار والترويع والتخويف في لوحة الصورة، على نحو تتحوّل (البلاد) بصيغتها الجمعيّة وانفتاحها المطلق على المكان والزمن إلى بؤرة ضيّقة يحاصرها بياض الضباب وحجبه، وتروّعها أصوات الذئاب ورغبتها المخزونة للتمزيق والقتل. من هنا تتوافر لنا فرصة النظر إلى المكان المطلق (البلاد) في عتبة العنوان الكبرى بوصفه بؤرة ضيقة تكتظّ بالخوف والرعب وتشويش الرؤية وتهديد الجسد، على نحو يحيل تأويلياً على أنّه هو بيت القصيد الماثل في العلامة العنوانية منذ البدء الشعريّ الأوّل في هذه التجربة، وهو ما يتيح لنا أيضاً الذهاب إلى قصيدة (بيت القصيد) ونحن متسلّحون بذخيرة دلاليّة وافية تجعلنا نتفهّم العلامة السيميائيّة في القصيدة على أنّها بؤرة التجربة ومركزها التعبيريّ والتشكيليّ، في سياق التعاطي مع تجربة المجموعة الشعريّة على هذا النحو التفاعليّ. بما أنّ عنوان القصيدة هو (بيت القصيد) فإنّ تصوّر التلقّي يتّجه مباشرة نحو ما يُشبه بيتاً شعريّاً واحداً بحسب مرجعيّة النقديّة العربيّة القديمة، وجاءت القصيدة هنا في أربعة أسطر شعريّة قصيرة تذكّرنا على نحو ما ب (الرباعيات): خُذي السكرانَ من يده ودلّيه فأنت سراجُهُ وطريقُهُ ونهايةُ التيه لكنّنا لو أعدنا توزيع القصيدة على نظام القصيدة العربيّة التقليديّ (الوزنيّ) في بيت شعريّ واحد على هذا الشكل: خُذي السكرانَ من يده ودلّيه فأنت سراجُهُ وطريقُهُ ونهايةُ التيه لوجدنا أنّ القصيدة تمثّل بيتاً شعريّاً كاملاً على (البحر الوافر) جاء على ثلاث تفعيلات في الصدر، الأولى والثانية تامّتان، والثالثة معصوبة، في حين جاء العجز على أربع تفعيلات، الثلاثة الأُول تامّة والرابعة معصوبة، ولو حذفنا مفردة (وطريقُهُ) بحيث يكون العجز (فأنت سراجُهُ ونهايةُ التيه) لحصلنا على عجز شعريّ يوازي الصدر تماماً على مستوى الإيقاع التفعيليّ، إلّا أنّ هذه المفردة المُقترح حذفها إيقاعياً تفعيلياً (وطريقُهُ) لا يمكن المساس بها دلاليّاً، لأنّها تؤدّي وظيفة شعريّة لا تعوّضُ غيابَها المفرداتُ المتبقيّة، غير أنّه على أيّة حال ثمّة تمثّلٌ شعريّ صياغيّ يحيل على المرجعيّة المفهوميّة لمصطلح (بيت القصيد) في قصيدة (بيت القصيد)، لا بدّ من ملاحظته بهذه الصورة. تبدأ القصيدة بفعل الأمر (خُذي) المسند إلى ضمير المخاطبة الأنثويّ، على نحو تنبثق منه الصورة الحواريّة بين راو شعريّ يوجّه كلامه نحو (آخر) أنثويّ، ما يلبث الفعل الأمريّ أنْ يتكشّف عن طبيعة المضمون الأمريّ بوساطة ظهور المفعول به (السكرانَ)، وبظهوره ينفتح المجال الشعريّ السرديّ على دخول شخصية جديدة إلى ميدان الحدث الشعريّ، تتفاعل مع الشخصيتين الحواريتين، شخصية الراوي الشعريّ الآمر، وشخصية الآخر الأنثويّ المأمور، وتشرع الجملة الشعريّة (خُذي السكرانَ) بتأليف فكرة الحدث الشعريّ الأولى في سياق التوجيه السرد شعريّ نحو الحالة، فالصفة التي يتحلّى بها (السكران) هي صفة العجز عن القيام بالفعل المطلوب من أجل استمراريّة الحدث، بما يحيل على علامة المساعدة في الفعل الأمريّ المسند إلى الآخر الأنثويّ. تستكمل الجملة الأمريّة تكوينها الحدثيّ حين يتوجّه الأمر بأخذ السكران من منطقة جسديّة محدّدة (من يده)، واليد هي آلة التواصل الجسديّ بين صاحبها والآخر، فبها تتحقّق المصافحة، وبها تتحقّق المساعدة أيضاً، وفاعلية التماسّ اليدويّ بين المأمور الأنثويّ القائم بالفعل والمفعول الذكوريّ (السكران) تحيل على شبكة صور بمرجعيّات مختلفة، لكنّ الصورة الأكثر وضوحاً في دائرة التأويل، والأقرب إلى تمثيل الممكنات القرائيّة في سياق العلاقة بين الآمر (الراوي الشعريّ) والمأمور الأنثويّ، هي صورة التواصل العلائقيّ المسبق بينهما أولاً على نحو يتيح إنتاج الفعل الأمريّ بهذه السهولة الدلاليّة الرحبة، وهي صورة التوحّد بين دالّ (السكران) والراوي الشعريّ على أنّهما شخصيّة شعريّة واحدة، فضلاً عمّا يمكن فيه فتح الأفق الدلاليّ على أوسع مدى تعبيريّ متاح حين نرى في (السكران) علامة على إنسان العصر، الذي لا يصلحُ للصحو لفرط الكوارث التي تدفعه لأن يكون في خدر مطلق. هنا على أساس هذا التأويل تتوحّد شخصيتا الراوي الشعريّ و (السكران) في شخصية واحدة، تتقاسم مع الشخصية الأنثويّة مساحة الحدث الشعريّ، وهذا التأويل يقود إلى إعادة النظر في حجم الطاقة الأمريّة في الفعل (خذيه)، لأنّه في سياق التحويل الشعريّ لصورة الحدث على رؤية شعريّة مختلفة يكون المضمون الأمري في الفعل قد فقد حساسيته الأمريّة تماماً، وتحوّل إلى نوع من التوسّل ووطلب الإنقاذ والخلاص، حين لا ترى الشخصيّةُ الذكوريّةُ (الراوي الشعريّ/السكران) دليلاً ممكناً يقترب من صورة المخلّص سوى (المرأة)، فيلجأ إليها بوصفها ملاذاً أخيراً ينقله من حالة السُكر إلى حالة الصحو. الفعل الأمريّ الثاني المعطوف على الفعل الأوّل يفسّر على نحو أكيد تفريغه من الطاقة الأمريّة وتحويله إلى فعاليّة التماسيّة تقترب كثيراً من التوسّل (ودلّيه)، لأنّ وظيفة الدليل هي وظيفة تعريفيّة يقوم بها عارف كي يقود جاهلاً نحو ما يجهل من أجل التعريف، على نحو تفقد فيه الصورة الأمريّة (النحويّة) أيّ معنى، لتكتسب معنى شعريّاً مناقضاً يمتدّ راجعاً لتصحيح الفرضيّة الأولى ذات الطبيعة الأمريّة للفعل (خذيه)، إذ ينفتح معنى الأخذ بعد عطف الفعل (دلّيه) عليه على دلالة أموميّة عشقيّة احتوائيّة مُخلّصة، فتغيب فرضيّة الأمريّة على نحو مطلق من أجل أن تُستبدل بها صورة مناقضة تقترب من الاستعطاف والاستغاثة. وإذا صحّ أن نقسّم (بيت القصيد) على قسمين، القسم الأوّل (الفعليّ) في (خذي السكران من يده/ودلّيه)، والقسم الثاني (الاسميّ)، فإنّ القسم الثاني يعزّز الرؤية التأويليّة التي حقّقتها قراءة القسم الأوّل (الفعليّ)، حين يقوم حرف الاستئناف (الفاء) بفصل القسم الأوّل عن القسم الثاني مقترناً بالضمير المنفصل الدالّ دلالة صريحة على المخاطَب الأنثويّ (أنت)، وهنا يتركّز الضمير المنفصل ارتكازاً شعريّاً ظاهراً ولافتاً بوصفه مركزاً سرديّاً شخصيّاً يحتلّ مكانة مرموقة في الصورة الكليّة العامّة للقصيدة. القسم الاسميّ وهو يبدأ بداية جديدة بعد فاء الاستئناف يضع ضمير المخاطَب المنفصل بحساسيته الأنثويّة (أنت) في موضع المبتدأ النحويّ، حيث يأتي الخبر (سراجُهُ) متجلّياً بنور دلاليّ يتحوّل فيه الضمير (أنت) جسديّاً وروحيّاً إلى آلة الدليل الضوئيّة، مقترنة بالضمير المتّصل (الهاء) العائد على (السكران/الراوي الشعريّ/الذات الشعريّة الساردة)، فالسراج بوصفه دالّاً مونسناً مؤنّثاً لا يتكفي هنا بإنتاج دلالة الآلة الدالّة على الغائب والمضمر والغامض، وهي ترشد (السكران) إلى منطقة الصحو، بل هو الجسد الأنثويّ حين يضيء ويحيل ظلمة المكان إلى سحر ضوئيّ لا يُقاوم، والروح الأنثويّة حين تجعل المكان معوّلٌ عليه بحسب الأطروحة الصوفيّة في أنّ المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه. تستمرّ واو العطف في إضافة معطوف يحيل على كون دلاليّ له علاقة بالمنهج والرؤية والمسار والأسلوب والقيمة (وطريقُهُ)، ودلالة الطريق هنا تنفتح على معنى شعريّ يتّصل بطبيعة علاقة الدالّ بالضمير المتّصل العائد على (السكران)، إذ السكران لا طريق له في حالة السكر، والكائن الأنثويّ المستدعى بوصفه ملاذاً مخلّصاً هو طريق (السكران) إلى فضاء الصحو، ومنهجه، وأسلوبه، وصوابه، ويتجلّى معنى الطريق الشعريّ في سياق صوفيّ حين يتواصل مع المعطوف اللاحق (ونهايةُ التيه)، لأنّ الطريق له بداية وله نهاية حتى يتمتّع بصفة الوضوح والبروز داخل فضاء الصحو، لكنّ المعطوف (نهاية) حين يضاف إلى (التيه) فإنّه يأخذ صورة صوفيّة تشتغل على إيقاف التيه عند نهاية معيّنة، في حين لا نهاية أصلاً للتيه بالمعنى الصوفيّ الكونيّ الممتدّ نحو آفاق لامتناهية، غير أنّ إيقاف التيه عند نهاية محدّدة في (بيت القصيد) يجيب على سؤال الدليل الأنثويّ للانتقال بالسكران في حبّه وخمره وحياته من التيه إلى الوجود الظاهر، ومن الغياب إلى الحضور، ومن الانتشاء إلى اليقظة، في سياق شعريّ متجوهر على ذاته تكاد تتفجّر دوالّه المتحتشدة بطاقة تدليل هائلة، تجعل من (بيت القصيد) كتلة شعريّة متوهجة تختزن كثافة المعنى في بؤرة كلاميّة تلتفّ على نفسها بطريقة بارعة، تبثّ علاماتها وإشاراتها من داخل كلّ صوت، ودالّ، وجملة، وتركيب، وفاصلة، وحساسيّة ورؤية، حتى يتكشّف النصّ عن خيوط شعريّة لولبيّة تشتغل أفقيّاً وعمودياً ودائريّاً في الاتجاهات كلّها، وصولاً إلى ثريّا الجوهر داخل (بيت القصيد). ______________________________ (*) عندما البلادُ في الضباب والذئاب، هادي دانيال، نقوش عربية، ط1، 2013، تونس: 47.