من صعيد مصر إلى ما تبقّى ممّا يشبه الحياة في كابول، من الأزهر إلى التورا بورا، من "صيصة أبو الدّوح" المصريّة إلى "فرخنده" الأفغانيّة يختلف المكان ويتنوّع اللّسان ولكنّ المأساة واحدة، هي رحلة الوجود الشاقّة للأنثى في أرض ذكوريّة قاحلة. "صيصة" أبو الدّوح امرأة ليست ككلّ النساء، توفي زوجها في سبعينات القرن الماضي تاركا إياها وحيدة أمام مصيرها تواجه قدرها في بيئة رجاليّة قاسية لا ترحم المرأة عموما ناهيك عن أرملة في مقتبل العمر، رحل زوجها وهي حامل في الأشهر الأولى. كانت "صيصة" تدرك قسوة الحياة في مملكة الذئاب، بعد أن وضعت مولودتها قرّرت أن تلغي أنوثتها لتشعر بالأمان فقامت بقصّ شعرها وتنكّرت في هيئة رجل، فالسبيل الوحيد للهروب من بطش الرجال وجبروتهم هو العيش في معسكرهم والتشبّه بهم فاخشوشن صوتها واخشوشب طبعها ولبست الجلباب الصعيدي. عملت لمدّة أربعين عاما في مهن شاقّة مثل رفع الطوب وأكياس الإسمنت وحصاد القمح وتلميع أحذية المارّة. "صيصة" وأدت روح الأنثى داخلها ودفنت جسدها في جلباب والدها لتعيش بسلام ولتوفّر لقمة عيش ابنتها الوحيدة الّتي سهرت على تربيتها وزوّجتها في سنّ السادسة عشرة ليطمئنّ قلبها، أو هكذا خُيّل لها. لنترك "صيصة" تمسح الأحذية في أرض الكنانة ولنسافر على بساط الجهل والتخلّف في اتّجاه الشرق فلنا موعد على مشارف قمم الهيمالايا مع روح "فرخنده". "فرخنده" هي نموذج لعبثيّة العلاقة بين الاسم والمسمّى، بين الدّال والمدلول فاسمها الفارسي الأصل يعني في اللغة العربيّة "سعيدة" ولكن أيّ سعادة عاشتها "فرخندة" وعمرها 27 عاما أي تقريبا عمر مأساة وطنها حيث كان مسرحا لحرب بالوكالة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد السوفياتي السابق، حرب موّلتها دول البترودولار الخليجيّة تحت مسمّى "الجهاد" لتستغلّها في حملتها الدعائيّة للترويج للإيديولوجيا الوهّابيّة الدمويّة فكان اللّقاء بين صحراء نجد القاحلة وجبال الهندوكش المغطّاة بالثلوج، بين المقدّس الديني والموروث القبلي البطرياركي، بين أمراء النفط وأمراء الحرب. "فرخنده" ،الّتي تربّت في بلد تُقتل فيه المرأة لمجرّد الشبهة،صونا للشرف. وجّهت لها الغوغاء زيفا تهمة حرق نسخة من القرآن .وأمام منزلها وتحت أعين أفراد شرطة المدينة قام جمع من الرجال الهمّج بضربها بالعصيّ وقضبان الحديد ورميها بالحجارة حتّى الموت ثمّ أضرموا النار في جسدها ورموا بها في الوادي. شُيّع يوم الأحد الفارط جثمان "فرخنده" في جنازة نسائيّة مهيبة حيث تحدّت النساء الأفغانيات العرف القبلي المقدّس وحملن وحدهنّ نعشها وكأنّ لسان حالهنّ يقول لن تحمل الأيادي الآثمة جسد "فرخنده" الطّاهر. منذ آلاف السنين والرجل الشرقي مسلّحا بالعرف والمقدّس يصرّ على حربه العبثيّة ضدّ جسد المرأة يُغطّيه لأنّه فتنة ويختنه خوفا من لذّة مفرطة ويضرم فيه النار لأنّه أصل الخطيئة. سوف يبقى الشرق عنوانا رئيسيّا للتخلّف ما لم يُقم بإعادة ترسيم الحدود بين الأرض والسماء.