شكّل إصلاح المنظومة التربوية ببلادنا التحدي الأكبر والرهان الأساسي لبلوغ التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المنشودة،على إعتبار أن إصلاح قطاع التربية والتعليم هو بالأساس استثمار في الرأسمال البشري،الذي يشكل الثروة الوطنية الإستراتيجية لمواجهة تحديات العولمة والتنافسية،و السباق نحو امتلاك الخبرات والعلوم والتقنيات،باعتبارها النواة الصلبة لتأسيس مجتمع العلم والمعرفة،والمدخل الأساسي للرقي ببلادنا إلى مصاف المجتمعات المتقدمة. فتاريخ المنظومة التربوية التونسية هو تاريخ الإصلاحات بامتياز،وفي نفس الوقت تاريخ صعوبات وإكراهات تنزيلها على أرض الواقع،حيث أن كل الإصلاحات المتعاقبة على المنظومة التربوية التونسية باءت بالفشل،نظرا لكونها لم تبلغ،لا القصد من بلورتها،ولا الهدف من إعدادها.لتتعدّد الأسئلة و تتشعب الإجابات: لماذا فشلت الإصلاحات التربوية السابقة ؟ لماذا لم تحقق الأهداف المسطرة و لم تبلغ النتائج المرجوة ؟و ما هي أهم مداخل الإصلاح التربوي المنشود؟ ثم ماذا نريد من المدرسة غدا،وما هي ملامح الخريج الذي نبحث عنه،وما هي أفضل التجارب الناجحة التي يمكن أن نستفيد منها،أو ما هي العادات الإيجابية التي ينبغي التركيز عليها والتقاليد السيئة-داخل المنظومة التربوية-التي يجب محاربتها من اليوم قبل الغد؟ ولعل ما دفعني إلى طرح هذه الأسئلة-اللجوجة-هو الوضع المتردي الذي باتت عليه مؤسساتنا التربوية،سيما وأنّ ترتيبنا الدولي في أهم تقرير دولي حول مستوى التلميذ التونسي في سنّ 15 سنة في التمكن من المعارف الأساسية (الثقافية الرياضية والثقافة العلمية وفهم النصوص) وهي تقارير"بيزا" التي تعد كل ثلاث سنوات والتي انخرطت فيها تونس منذ سنة 2003.جد مؤسف ومحبط في الآن ذاته..هذا بالإضافة إلى الكارثة السنوية التي نعاني منها جميعا: مغادرة أكثر من مائة ألف تلميذ المدرسة دون الحصول على شهادة ما.. ! وهنا نتساءل ثانية:هل بإمكان الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية الذي انطلق مؤخرا تلمّس أبواب إصلاح منشود منذ عقود واستحال،إلى الآن،إصلاح يرمي إلى تلافي هُزال المنتوج المدرسي الذي ما فتئ يتعمّق سنة بعد أخرى،حتى تغلّب الفتق على الرتق..؟ قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ التحدي الأساسي للمنظومة التربوية يتمثل بالأساس في مساهمتها الأساسية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال تأهيلها للرأسمال البشري وعملها على إعداد أجيال المستقبل وقدرتها على تسهيل الإنخراط في المشروع المجتمعي الذي يعتمد بالأساس الخيار التنموي و الديمقراطي.. ولكن..لا يمكن رفع هذا التحدي،ومن ثم تحقيق ما نصبو إليه جميعا (مدرسة عالية الجودة،ومدرسة مجتمع انعقد دستوره الجديد على قيم الحرية والعمل والمواطنة والديموقراطية والعدالة الإجتماعية ومدرسة التنمية الإنسانية والرقي الإقتصادي والإجتماعي) إلا من خلال اعتماد مقاربات تربوية جديدة تركز بالأساس على تفاعل المتعلمين٬وتطوير كفاياتهم الذاتية وتحرير روح المبادرة و الإبداع والابتكار لديهم،وكذا من خلال نهج طرق بيداغوجية حديثة تتجاوز منطق شحن الذاكرة و طرق التلقين الكلاسيكية إلى منطق إذكاء الحس النقدي و تنمية الذكاء لدى المتعلّم في أفق تسهيل عملية اندماجه في مجتمع المعرفة والتواصل. وإذن؟ لا ينبغي إذا،أن نخطئ في التشخيص ولا أن نبقى سجناء مصالح ضيقة لبعض-المنتفعين من فساد المنظومة التربوية-،ولا أن نغمض أعيننا عن عمق الإخفاقات بإبراز النجاحات-وهي موجودة ولا شك-. ومن هنا،فإنّ الإنطلاق في مسار إصلاح المنظومة التعليمية والتربوية،يستوجب منهجيا إخضاع المنظومة التربوية ونظام التعليم المعتمد منذ 1956 إلى آليات التقييم والنقد والتفكيك والتشخيص،لذلك لما يمثله التعليم من عمق في صياغة ملامح الأجيال القادمة وبلورة قيم الشباب وإقتداراتهم وكفاءاتهم باعتبارهم عماد نهضة المجتمع وركائز تطوره وعقول تنميته وسواعد بنائه بما يمثلونه من عمق ومخزون إستراتيجي للثورة والدولة والمجتمع. وعليه،فإن نجاح الإصلاح التربوي المنشود مرتبط بالأساس،بإعطاء الأولوية للحلول التربوية والبيداغوجية لمعالجة اختلالات المنظومة التربوية عبر استبعاد منطق المعالجة التقنية الصرفة للإشكاليات التربوية،وتجاوز المقاربة الكمية إلى ما هو نوعي،من خلال التركيز على المستهدف الأساسي من الإصلاح (التلميذ/ة ).و كذا تجديد المحتويات و المضامين و تحديث البرامج والمناهج الدراسية،ومراجعة المقاربات التدبيرية المعتمدة حاليا في تسيير الشأن التربوي.هذا بالإضافة إلى ضرورة العمل على تثمين العنصر البشري (نساء ورجال التعليم)،عبر إعادة الاعتبار له و تحفيزه ماديا و معنويا. وكذا تفعيل المقاربة التشاركية و إنجاز تعبئة مجتمعية شاملة حول الإصلاح التربوي،عن طريق إعداد وتنفيذ خطة تواصلية محكمة قصد ضمان تعبئة و انخراط ومساهمة كافة الفاعلين و المتدخلين و المعنيين (تلاميذ، أساتذة، إدارات تربوية،إطار إشراف بيداغوجي،نقابات،جمعيات المجتمع المدني..إلخ) في المجهود الإصلاحي،في أفق إعادة الثقة إلى المدرسة التونسية و إنجاح الإصلاح التربوي المنشود،باعتباره المدخل الأساسي لربح الرهان التنموي لبلادنا. ما أريد أن أقول؟ أردت القول أننا اليوم أمام فرصة تاريخية حقيقية كي نبني منظومة تعليمية واعدة،فالثورة تفرض تغييراً مهماً في أهداف التعليم ومناهجه ومضامينه..وعلى هذا الأساس بالتحديد،لا يمكننا أن نتكلم عن إصلاح تربوي ناجح في غياب توافق سياسي حقيقي لكافة الحساسيات الوطنية،حول المرامي و الوظائف و الاختيارات الأساسية للمدرسة التونسية المنشودة. قلت هذا،كي لا تتعمّق المسافة بين التلميذ والمربي ومن ثم تنحرف المؤسسة التربوية عن الأهداف التي رسمتها الثورة التونسية المجيدة،سيما ونحن نبني جمهوريتنا الثانية بسواعد فذّة وإرادة لا تلين. وأخيرا،فإن إصلاح المنظومة التربوية يمثل-كما أسلفت-مطلبا إستراتيجيا حيويا يجب أن تساهم فيه كل الأطراف التربوية والسياسية والمدنية والإقتصادية،وذلك على أساس الحوار المجتمعي الحقيقي،بمنآى عن كل مظاهر الإستعراضات البروتوكولية التي تذر الرماد في العيون،وتغلّب الفتق على الرتق..