الجدل الذي رشح عن موقف المجلس الإسلامي الأعلى من برنامج "عيال اللّه" الذي يبثّ على موجات الاذاعة الوطنية يعيد إلى الأذهان استحضار الطريقة الفجّة التي تعاطت بها ذات المؤسسة التابعة لرئاسة الحكومة سنة 1990 مع نفس الشخص المفكر يوسف الصديق الذي أصدرت ضدّه وقتها فتوى تقضي بمنع نشر كتاب صدر له في فرنسا و احتوى على صور و رسوم تفسيرية و تبسيطية للنصّ القرآني،بحيث كان موجها بالأساس للأطفال من أجل تسهيل تعلّم الآيات القرآنية لدى الناشئة وفقا لبيداغوجيا هادفة. لقد مرّ ربع قرن على تلك الحادثة شهد فيها العالم تطوّرات جمّة غيرّت الكثير في حياة الانسان والبشرية،في حين ظلّ المجلس الإسلامي الأعلى حبيس ذات النسق الذهني في التعاطي مع مسائل فكرية و دينية لا تخلو من أبعاد دنيوية. و الأنكى و الأمر أيضا يبرز في تصريحات رئيس هذا المجلس الذي لا يعترف بالفصل السادس من الدستور باعتباره ينصّ على حريّة الضمير و يجرّم التكفير على الرغم من أنّه يقوم على قاعدة لا اكراه في الدين! إنّ الموقف الذي أصدره المجلس الإسلامي الأعلى هذه المرّة إزاء المادة الاعلامية التي يطرحها يوسف الصديق في برنامج يرتكز على العقلانية و التاريخنية في تفهمّ التراث الديني بعيدا عن منهاج الدجل والخرافة الذي يسير فيه البعض الآخر من الأوصياء على الاسلام،يؤجج الحيرة حول مدى مشروعية وجود مثل هذه المؤسسة التي نصّب أعضاؤها أنفسهم في موضع "اكليروس" ديني يفتّش في عقائد البشر و يلقي تهم الزندقة و المروق يمنة ويسرة إزاء كلّ عقل نيّر ارتأى صاحبه النبش في تاريخ مبهم و ثقافة أوشك رهط من المتأسلمين على تحريم واجب فتح باب الاجتهاد فيها من أجل تخليصها من الشوائب التي علقت بها طوال عقود من الزمن. لقد حفظ الصديق منذ نعومة أظافره القرآن والأحاديث النبوية و الشعر كما رحل بعقله المفكّر بعمق في عوالم التاريخ و الأدب و الفلسفة و الانتروبولوجيا،بينما ظلّ جماعة المجلس الإسلامي الأعلى في بوتقة مقاربة ماضوية في التفاعل مع اعتمالات الحاضر المثقل بالتساؤلات و الحماسة صوب "التحرير و التنوير" على شاكلة العلاّمة الطاهر بن عاشور من أجل مواكبة العصر و مجابهة تحدياته الدنيوية و الميتافيزيقية. وهنا ربّما يكمن داء هذا الرهط ممّن كانوا و لازالوا حجر عثرة إزاء فكرة التقدّم بأمّة أضحت مسخرة لدى بقية العالم بجهلها و تخلفها و ارهابها المصنّع في مخابر الدمغجة و استلاب العقول. إنّها فعلا محنة مفكّر يرى في الدين الاسلامي "جغرافيته الروحية" التي هي بمثابة نبراسه في الحياة من أجل الرقيّ بإنسان يسعى أعضاء "اكليروس" متدثّر بعباءة الاسلام إلى تكبيله وثنيه عن حتمية البحث عن إجابة لسؤال جوهري:هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها؟