المرأة ذات القبعة الزرقاء، الماسكة بتفاحة في لوحة بابلو بيكاسو المعلقة في جدار مكتب سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، تشبه بشعرها القصير واستدارة وجهها ورمزيتها صاحبة المكتب. إنها امرأة كحواء تكشف لنا أن في يدها “تفاحة الإغواء والنفوذ”. البحث عن النفوذ دون التفاحة والإغواء بغير حاجة إلى لسعة الحية التوراتية ، من بين الكلمات المفاتيح لرسم بورتريه سهام بن سدرين. فالمرأة التي بلغت من العمر عتيا (65 سنة) تغالب بشرتها والبشر. فهي تقاوم إرادة بشر لعزلها من منصبها وهي تجاهد سنن تجاعيد الزمن التي تريد الظهور على بشرتها. بعد حزمة استقالات من أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة ورسائل اتهامات بالتفرد بالقرار وسوء التصرف في أموال الهيئة، مازالت بن سدرين تتحصن في طابقها الخامس في نهج لاس في حي مونبليزير. “باقية في منصبي ودون أن تتمدد تجاعيد العجائز على وجهي” شعارها. هي في ذلك تخوض آخر معاركها. تحرص بن سدرين على الإيحاء بأنها لم تفقد شيئا من فتنتها الطلابية أيام ذهبت تدرس في إحدى جامعات تولوز الفرنسية منذ أزيد من أربعين حولا. رحلتها الفرنسية التي طبعت لسانها إلى اليوم وجعلته فرنكفونيا فصيحا مطعما بكلمات دارجة تونسية، لم يتناقض مع ارتدائها حجابا إسلاميا وهي تقسم على المصحف إخلاصا لمهمتها في هيئة الحقيقة الكرامة في نهاية مشوارها. ولكن كيف لا ترتدي بن سدرين حجابها وقت زكاها صاحب الحمامة الزرقاء؟!. بن سدرين تحب اللون الأزرق وتحرص على تناسق ألوان ما ترتديه. هي تغير ألوان ثيابها بشكل يومي كما غيرت بعضا من قناعتها على امتداد سنينها الستين. من الطبيعي ان تتغير القناعات مع السنين والثياب بين ليلة وضحاها. لا غرابة. “المرأة الفاضلة” سهام بن سدرين لا تختلف عن شيء عن بنات جيلها من النساء التونسيات، صنيعة بورقيبة الذي لم يتمم عملية التحرير، فكان النتاج : امرأة شغوفة بأفكار فولتير ولا تتردد في الاستعانة بدعم “الشيخ” كما تسميه كلما همّ بها خطب! سياسيا فهمت أن بعضا من تحقيق النفوذ يأتي من عقد تحالف مع جارها، شيخ مونبليزير. كان أنصاره يلقبونها ب”المرأة الفاضلة” ويحتفون بها في المواقع الاجتماعية واجتماعات المساجد “كأيقونة” الثورة ورمزيتها غير الملتحية. وكانت سهام توجه سهامها الى خصومهم السياسيين. لم تتردد في نقد بعض نقابات “اتحاد الشغل” المخترق من النظام القديم، ولم تتردد في مهاجمة نداء تونس “كإعادة رسكلة للتجمع” وتوجيه سهامها إلى مدرستها اليسارية التي تناهض الإسلاميين. كانت في كلمات تستعمل المصطلحات التي يعشق سماعها الإسلاميون على اختلاف انتماءاتهم: ثورة مضادة، عودة التجمع، أزلام بن علي.. تحول كل ما يعارضهم ويعارضها الى نظام قديم، حتى فيوليت داغير، الناشطة الحقوقية السورية المسيحية التي كانت رفيقة دربها تحولت إلى نظام قديم! فهمت المرأة ذات القبعة الزرقاء أن مصيرها كما نفوذها في تلك التفاحة التي تمسكها بيدها. مصيرها يرتبط بتحالف مع أصحاب اللحى، “اصطناعية” كما قالت يوما أو حقيقية لا يهمّ. كل الطرق تؤدي الى النفوذ مشروعة ولو بتناسي تاريخها النسوي اليساري. ربما فهمت أن بلادا يسودها الدين، المجد فيها والنفوذ لا يتأتّى من صالونات الحداثيين! فهمت بن سدرين بوابات نفوذها مبكرا. كنسوية يسارية سليلة عائلة حزب التجمع الاشتراكي التقدمي الذي انحدر من تنظيم العامل التونسي اليساري، لم تر بن سدرين في هذا الحزب في بداية حياتها ما كانت تطمح اليه. انتهت بأن أغلقت دونه الباب باحثة عن مجدها في مكان آخر غير الأحزاب. البحث عن النفوذ بأي طريق وبأي ثمن من أجل صناعة المجد الشخصي دفع ببن سدرين إلى اختيار الإعلام طريقا آخر للظهور. بدأت بمقالات وتحقيقات وحوارات جريئة كصحفية بسيطة وخجولة وطموحة في مجلتي حقائق و المغرب وجريدة لوفار الناطقة بالفرنسية، بعد تجربة معتبرة فهمت أن هذا الطريق لا يؤدي إلى تحقق ما كانت تتمنى. عادت فيما بعد إلى الأقرب إلى انوثتها بتأسيس مجلتين سياحيتين ولكن فهمت أيضا أن هذه التجربة لا فائدة منها، فمضت تطرق أبوابا جديدة. كان إصدار جريدة كلمة (2000) ومن بعدها الإذاعة (2008) التي تحمل نفس الاسم في مراحل من مسيرتها لا علاقة لها بتصورها للصحافة في بداياتها الإعلامية البريئة بداية الثمانينات. كانت كلمة وإذاعتها أدوات من أجل الضغط لا غير. تقلدت بن سدرين في ذلك الوقت صفة جديدة كحقوقية لتصبح ناطقة رسمية باسم المجلس الوطني للحريات، في هذا المجلس بالذات وكما سيأتي لاحقا، عثرت بن سدرين على بوابة نفوذها والطريق إلى تحقيق مجدها الشخصي. “واد ساكت” تحرص بن سدرين كذات القبعة الزرقاء التي تقف أمامها كل صباح، على استعمال أحمر شفاه خفيف جدا لا ينبئ بتأثير ثغر من عادته ان يتكلم بهدوء عجيب ولكنه يذكر الكثير من التونسيين بذاك المثل القائل” تعدى على واد هرهار ولا تتعدى على واد ساكت”! هي امرأة تعوزها خطابة المنصات والاجتماعات العامة ولكنها تحبك لغتها وتقنع بقوة في المجالس ومن وراء الأبواب المغلقة. قصة بن سدرين طويلة وقديمة مع المجالس. من مجلس الحريات الذي ساهمت في تأسيسه في ديسمبر 1998 في نهج أبوظبي الضيق في قلب العاصمة، إلى انتخابها كرئيسة لهيئة الحقيقة والكرامة في جوان 2014، عثرت ابنة ضاحية المرسى سليلة عائلة بن عمار “البلدية” على مجدها الشخصي على حد عبارة بطل رواية الخميائي. كانت رغبتها أبعد من الاستقرار في فيلا وزوج من قبيل عمر المستيري. باركها هذا الاخير في كل خطواتها ورضيت ان يكون بعلها. من يقود سفينة الزوجية؟! لا يهم. المهم النفوذ والمجد الشخصي، اذا ما تحقق فالرابح بالقطع الزوجان لا أكثر ولا أقل. لم يكن عمر المستيري مجرد زوج لها، كان رفيق طريق وبولدوزير الاقتحامات في الكثير من معاركها في أن تصل إلى ما تريد. اتفقا لا في أن يعيشا سويا فقط وينجبا أطفالا ولكن في أن يمضيا إلى نهاية المغامرة. كان المجلس الوطني للحريات الذي استقر فيه الزوجان في نهج أبوظبي، ملتقى كل منظمات العالم الحقوقية. منه تنظم الحملات والتحركات ضد نظام بن علي ومنه تصدر كلمة وفيه تعقد الندوات والمؤتمرات. كان شقة عقدة لنظام فهم أن الزوجين ذهبا بعيدا في عقد تحالفات قوية مع داعميه الأساسيين: الأروبيين. “بيض الدجاجة” كان المجلس حصان طروادة للولوج إلى جميع القلاع الحصينة، فهمت بن سدرين أن نجاحه كان رهين فتحه ودفاعه عن ملف السجناء الإسلاميين، نهضويين وسلفيين. لهذا السبب نفهم بعضا من تحالف بن سدرين معهم في طموحها الشخصي اليوم. نحن أمام رد جميل قديم. كان المجلس عنوان كل مسرح من السجون وكل مطارد ومضطهد. كان بمثابة الأداة الفاعلة في التحكم والتاثير في الداخل والخارج ولهذا السبب بالذات استأثرت بن سدرين بإدارته وقيادته. بعض من مؤاخذات أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة اليوم سمعناها في السابق من أعضاء في مجلس الحريات حينما كان فاعلا. استقالة المحامي نجيب حسني (عضو المجلس التأسيسي السابق) في ذلك الوقت من المجلس ورسالته الشهيرة شاهدة. أيا يكن من أمر كان المجلس الدجاجة التي تبيض ذهبا. عبره عبرت بن سدرين إلى مجدها الشخصي، أيقونة الحرية لمدة سبعة أسابيع سجن النساء بمنوبة في جوان 2001 بعد مشاركتها في برنامج حواري في قناة المستقلة اللندنية. جوائز لا تحصى بعنوان حقوق الإنسان وحرية الصحافة. رحلات وإقامة في المانيا لمدة أشهر تحت عنوان تحقيق الديمقراطية في تونس. انتهى دور المجلس مع الثورة تقريبا، وتحول إلى مجرد حانوت من بين العشرات الحقوقية الأخرى. أدى غرضه بالنسبة للبلاد و لسهام بن سدرين. كان لا بد من مجلس آخر يستجيب لمرحلة الانتقال الديمقراطي. الإسلاميون مجددا محور المجد والنفوذ وحصان طروادته. أرادت أن تفتك من الأيام الأولى ملف العدالة الانتقالية فأسست “مركز تونس للعدالة الانتقالية” في أواسط سنة 2011، أي اشهرا قليلة بعد سقوط نظام بن علي. كان الأمر تهيئة لحصولها على منصب رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بإصرار من أصدقائها الإسلاميين وبدعم من صديقها القديم المنصف المرزوقي الذي وصل إلى قرطاج والذي فهم بدوره أن مجده الشخصي لن يتحقق إلا ببركات الملتحين. في مكتبها بالطابق الخامس بمبنى هيئة الحقيقة والكرامة على بعد امتار من مكتب شيخ مونبليزير، فهمت بن سدرين أن التحالفات المركبة قد توصلها أحيانا إلى ما تريد ولكنها تظل مركبة ومربكة وقد تغرق مركبها وتغرقه في دوامات الحسابات والمصالح والمصالحة التي يريدها شيخ مونبليزير. وهي تنظر ألى اللوحة التي تواجهها كل صباح في مكتبها، ربما تفطنت سهام بن سدرين إلى أن بابلو بيكاسو، في الحقيقة قد رسم وجهين لجسد المرأة ذات القبعة الزرقاء. وجهين لشخصية واحدة. “أتراها تشبهني، نسوية ذات جذور يسارية متحالفة مع الإسلاميين؟! أهي انفصامية مثلي؟! أي الشطرين لوجه المرأة أنا؟! ألا يكون المجد والنفوذ إلا بتركيبة امرأة ذات وجهين؟! كم انت خبيث يا بيكاسو!” المصدر: الشارع المغاربي