كلّما انتهت جلستنا وافترقنا تمنيّت أن أقابله مرّة أخرى، هكذا يتحدّث الكاتب البريطاني الشّهير روبرت فيسك عن القامة الرّاحلة "محمد حسنين هيكل" الكاتب الصّحفي الألمع عربيّا و واحد من الأقلام و الأصوات الرّاسخة في تاريخ الصّحافة العالمية. غادرنا الأستاذ هيكل أمس تاركا وراءه عشرات الكتب و الإصدارات التّي ستحفظها الذاكرة العربية و الكونية إلى أبد الأبدين و ليعلن التّاريخ سقوط الهرم الرّابع الذي ألفته مياه "النّيل" و "البردة" و الذي بادلته الصّحافة نفس العشق الذي حظيت به في قلبه. فآثر أن يوفّر لها كلّ وقته و فكره فمنحته الشّهرة و الرّسوخ في الذّاكرة الجمعية. الرّاحل هيكل بدأ الكتابة صغيرا حتّى أنّنا نكاد نقول أنّ الكتابة هي التّي بدأته. فمنذ 1942 عانق الأستاذ القلم و لم يتركه إلا ساعات احتضاره. و قد بدأ نشر كتبه السّياسية وهو لم يتجاوز العشرينات بعد حين أصدر كتابه "إيران فوق بركان" عام 1951 بعد أن قضّى شهرا كاملا في هذا البلد و تعرّف فيه على الخصوصيات الحضارية و خاصة السياسية التي تميّزه. وكان ذلك الكتاب فاتحة مسيرة حافلة بالمنشورات و الحوارات و الرّحلات الصّحفية الفريدة خاصّة في الخمسينات و الستينات عندما رافق "هيكل" الرّئيس المصري جمال عبد الناصر في كلّ تحركاته و قراراته و كتاباته ليصبح بذلك القلم الأبرز على السّاحة . و هيكل لم يكن وقتها مجرّد صحفي ناقل للخبر بقدر ما كان كاتبا للتاريخ و مشاركا في صنع القرار لما تميّز به من دهاء و ذكاء سبق عصره. و توالت بعد ذلك النجاحات الصّحفية لهذه القامة الفريدة و خاصّة عندما ترأس جريدة الأهرام المصريّة التي عرفت في عهده إشعاعا منقطع النظير. وما ميّز هيكل عن غيره هو درايته الشّاملة بكواليس السّياسة إذ عرف كيف يدخل إلى "مطابخ السّياسة" و يكتشف الأسرار التي جعلت منه واحد من أنجح المحللين السياسيين في العالم و أيضا كوّنت لديه ذاكرة تاريخية صلبة تحتفظ بكلّ الأحداث التي عاشتها مصر و العالم خلال القرن العشرين و العقد الأوّل من الألفية الثالثة . خصوصا و أنّه حاور أغلب الشّخصيات التي صنعت التّاريخ آنذاك من عبد الناصر إلى نهرو إلى الخميني و غيرهم. وفي الصّحافة لم تقتصر تجربته على الأهرام فقد ترأس أيضا مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم و التي عرفت ازدهارها مع قلمه النّابض. و كانت مقالات الرّأي التي يحبّرها "الأستاذ" تثير الرّأي العام العربي و العالمي و خاصّة في ركنه "بصراحة" في الأهرام الذي يكشف فيه عن نظرته العميقة لمجرى الأحداث في المنطقة. 17 فيفري سيبقى يوما أسودا في تاريخ الصّحافة العالمية . كيف لا وهو قد حمل معه قامة إعلامية شامخة مثل "هيكل". قامة إعترفت بتميّزها كلّ القمم الفكرية في العالم من "تشومسكي" إلى "إدوارد سعيد" و "روبرت فيسك" و غيرهم . و قامة بكتها مياه النّيل التي استأنست بهيكل المفكّر و الكاتب . فالنيل كان يعرف أنّه إلى جانب أهرامات الجيزة يوجد هرم رابع وهو الرّاحل محمد حسنين هيكل.