يعد محسن مرزوق، من بين الوجوه الجديدة في الحياة السياسية، فهو قادم من جيل الحركة الطلابية، في فترة التسعينات، الذي قدر له أن ينفتح على عوالم ثقافية واستراتيجية، بحكم حياته في المهجر وتعاطيه مع العمل الأهلي وايضا البحثي والدراسي، وهو ماجعله يتعاطي بقراءة نقدية مع ارث المرحلة الطلابية، دون قطيعة مع ثوابت ومرتكزات الثقافة السياسية الحداثية ممثلة في تياراتها الرئيسية، ونعني التيار الوطني/الحداثي – البورقيبي - ، والتيار اليساري القريب أكثر من "اليسار الثقافي"، ممثلا في أطروحات المجدد في الماركسية، أنطونيوغرامشي. 1// لعل هذا ما جعل البعد الثقافي طاغ في الممارسة السياسية للرجل، الذي يعتبر أنه لا يمكن ممارسة السياسة بدون عمق ثقافي وتنظيري، بعد اساسي سيكون حاضرا في تحديد طبيعة العلاقة مع التيار الاسلامي. كما يري الكثيرون ممن يعرفون محسن مرزوق، ومن الذين عايشوه زمن الحركة الطلابية وما بعدها، أن الرجل يتوفر على موهبة وخاصيات مهمة مثل الذكاء والخطابة والحضور المشهدي، وهي كلها مواصفات مهمة في العمل السياسي الحزبي، وهي التي فسرت الى حد كبير النجاحات التي حققها، والتي جعلته يحظي بثقة الباجي قائد السبسي، الذي قد يكون "رأي فيه بعض من شبابه"، قبل أن يحصل الطلاق بالتراضي بينهما مع الابقاء دائما على حبل الود. 2// بعد الثورة، وفي مرحلة أولي ومن خلال التركيز على الحضور في المنابر الإعلامية، عرف الرجل كيف يستفيد من ظاهرة الإقبال على "الفرجة السياسية" على الشأن العام، التي تعد جديدة على التونسيين، الذين عاشوا طيلة أكثر من عشريتين تصحر في "الاعلام السياسي"، خاصة التلفزيوني الذي كانت تهيمن عليه السلطة، من قصر قرطاج بالذات. وقد مثلت هذه "المشهدية التلفزية" فرصة ليتمكن الرجل من تسويق نفسه، كفاعل مهتم بالشأن العام. لينتقل بعدها بسرعة فائقة من النشاط في المجتمع المدني وفي الحقل الاعلامي، الي العمل السياسي والحزبي، سواء في موقع أهم مستشار للرئيس السبسي، أو لاحقا كأمين عام للحزب الحاكم، حزب "حركة نداء تونس"، قبل أن يستقيل من هذه "المهمة"، معلنا أنه ينوي "الانتصاب لحسابه الخاص"، ليختار بعث حزب جديد، ينازع "نداء تونس" في "مشروعه" وفي "شرعيته"، هذا الحزب الذي يراه قد "زاغ" عن مساره التنظيمي والسياسي وعن حلم البدايات. وذلك بعد صراع داخلي، ساهم في إضعاف الحزب وتفكيكه، كما ساهم أيضا في إرباك مؤسسات الدولة. 3// استطاع مرزوق، بفضل "موهبة سياسية" لافتة، يقر بها خصومه قبل أنصاره، من "التموقع" في مشهد سياسي متحرك، عبر ابراز "دينامية" و "لوك" جديدين، غير متعارف عليهما في الساحة السياسية، التي ما تزال تخضع لهيمنة "الشيوخ"، بمعنى تهرم كبير في قادة الاحزاب وفي الناشطين السياسيين. كما اختار الرجل ودون تردد أن يضع مساره واختياراته، في مواجهة التيار الاسلامي الذي تحكم في المشهد ما بعد الثوري. مقدما نفسه على أنه من "حماة" المشروع أو النمط المجتمعي التونسي، الذي يري أنه مهددا من قبل "الاسلام السياسي". وهنا نجح في توظيف المكون الثقافي والايديولوجي، كما دفعته اندفاعته الى مزيد صقل موهبته وتنميتها، من خلال الفهم السياسي للأحداث الجارية، سواء داخل حزب "نداء تونس" الذي جعل منه أداة لصقل هذه الموهبة وللبروز وأيضا القيادة، من خلال قيادة الحملة الرئاسية لقائدة السبسي، وتحمل مسؤولية الأمانة العامة في الحزب الذي فاز في الانتخابات، وحقق هدفه الأول والمتمثل في ازاحة الاسلاميين عن الحكم. 4// برغم هذه "النجاحات"، فان محسن مرزوق "افتتحت شاهيته" الى القيادة والزعامة، ما جعله يرى في التناقضات التي تسربت لجسم "نداء تونس"، وتحولت الى مرض مزمن، ستكون معطلة بل عائقة له في الاستمرار في تنفيذ "الحلم" أو "المشروع" كما سماه لاحقا. فاختار الحسم عبر الخروج من حزب نداء تونس، الذي أصبح يري أنه حاد عن مشروعه الثقافي والمجتمعي. لينطلق في تجربة اعتبرها الكثيرون بمثابة "انتحار سياسي" وعنوان لتضخم "الأنا" بل تورم في هذه "الأنا". لكن، الأيام والأشهر القليلة، ما بين الخروج من "النداء" وتأسيس "المشروع"، كشفت عن صواب اختيارات صاحب "المشروع". فمن الاعلان عن ميلاد الحزب في 2 مارس 2016 الى عقد المؤتمر الوطني التأسيسي ف 23 جويلية 2016 الجاري، 5 أشهر كانت كافية لبناء حزب سياسي تشير كل المؤشرات الى أنه ولد كبيرا، وهذا ما سيعمل مرزوق على تأكيده، في مؤتمر اليوم بقاعة "القبة" بالمنزه، الذي سيحضره 6 اللاف بين مؤتمرين وضيوف، وسيكون "استعراضيا" على شاكلة مؤتمر حركة "النهضة" في ماي الفارط. 5// عاد مرزوق، الذي عاش كل تجربته السياسية في اليسار الطلابي، من المهجر بعد الثورة للمشهد العام، وهو متسلح بخبرة دولية في النشاط العام ضمن منظمات المجتمع المدني، ومراكز البحث وبارتباط بشبكة علاقات هامة في المستوي الخليجي و الدولي، وذلك بعد أن قام "بمراجعات" فكرية ومضمونية ل "أصوله الايديولوجية" ليصبح محسوب واقعيا على التيار الليبرالي، دون أن يفقد ارتباطه "الثقافي" باليسار، هذا "الهوى اليساري"، الذي برز خصوصا في إدارته للصراع مع الإسلاميين، سواء في الإعلام والمجتمع المدني أو في العمل السياسي الحزبي أساسا داخل "نداء تونس" قبل الفوز الانتخابي، وقبل اعلان "التعايش" بين الشيخين. وهنا لاحظنا أن مرزوق (في صراعه مع الاسلاميين) قد استعاد تقريبا مع فوارق بسيطة، أشكال تحرك وخطاب الحركة الطلابية، أيام كان يشغل خطة الناطق الرسمي باسم الوطنيين الديمقراطيين بالجامعة (وطج).
6// لا يخفى مرزوق تناقضه مع المشروع الاسلامي لحركة "النهضة"، وهو يرى أن التعايش في الحياة السياسية، يعني أيضا الاختلاف وحتى التناقض الجوهري مع بعضنا البعض كل ذلك في إطار التنافس الديمقراطي والدستوري. ويشدد على أن لا يمكن أن يتحالف مع حركة "النهضة" بسبب الاختلاف في مسائل جوهرية، مثل الفصل بين الدين والسياسة. وهنا يؤكد مرزوق في أكثر من مناسبة، على أن كل طرف سياسي ما زال يخلط بين الدين والسياسة، لا يمكن أن يتحالف معه. و الذي سيحدث هو نوع من التعايش السلمي والديمقراطي داخل الحياة السياسية وداخل البرلمان. وحتى لا يكون "مشروعه" مبني على فكرة التناقض مع الاسلاميين، يصر محين مرزوق على التأكيد على أن ما يشغله هو أن يكون هذا المشروع الوطني العصري من أشرس المنافسين في الحياة السياسية، ويكون هو الفائز الأول في الانتخابات القادمة. وان يكون قادرا على الحكم لوحده أو مع الذين يقتربون من رؤاه وتصوراته. حتى لا يتكرر سيناريو نداء تونس، وفق تعبيره. ويشدد مرزوق في "دردشة" مطولة جمعتنا منذ أيام، على أنه لا يجب الخلط في التمييز بين حكومة التعايش التي فرضها الناخب التونسي، وبين التحالف والاندماج باسم التوافق، الذي يُقضى فيه جوهر الفكرة الديمقراطية، كما أنه يشكل خطرا على التعددية والاختلاف.
7// لا يبنى مرزوق "مشروعه" على معاداة "المشروع الاسلامي" فقط، ففي حديثه معي حول مشروعه السياسي، يؤكد على ضرورة المحافظة على أسس الحريات والديمقراطية، والعمل على تجذير هذا المسار الديمقراطي، الذي يواجه صعوبات وعثرات يراها طبيعية في ظل كل مرحلة انتقالية كبرى، سمتها الأساسية أو الطاغية هي سقوط نظام دون التوفق الى بديل بناء بديل له وهي عملية جارية وهي في طور التأسيس والبناء. كما أن التنظير السياسي، لم يجعله يغفل عما يمكن أن نطلق عليه "أولويات المرحلة"، هنا يشير "صاحب المشروع" الى أن الدولة بحاجة ماسّة إلى استعادة سلطتها كاملة، من خلال الاهتمام بكسب الرهان في ثلاثة قضايا كبرى، وهي: "الحرب على الفساد" و"الحرب على الإرهاب" و"الإصلاحات الكبرى"، وذلك من أجل تجنب الانزلاق نحو الفشل الذي يتغذي من شيوع و انتشار مظاهر الفوضى التي عادة ما تصاحب الفترات الانتقالية.
8// كما يشدد مرزوق على ضرورة بناء حزب عصري وقوي يكون قادرا على كسب هذه الرهانات والتحديات. وهنا يقول أنه وأثناء إجراء الاستشارة الوطنية للمشروع، وجهنا سؤالا للمشاركين عن الخطأ الذي قامت به الأحزاب السياسية ويتمنون عدم تكراره، فكانت اكبر نسبة تحديدا فاقت الثلث تصب في خانة عدم الإيفاء بالعهود. ونتيجة لهذا سنسعى جاهدين من خلال تركيز آليات الرقابة الديمقراطية التي سيشرف عليها مناضلوا ومناضلات الحركة للإيفاء وتحقيق كل الوعود الحزبية التي نطلقها. فنحن لا نريد بناء حزب ينضم إلى القائمة الطويلة للأحزاب الموجودة، على الساحة السياسية، بل نريد بناء حركة سياسية قوية ومتجذّرة، ملتفّة حول مشروع قوي. وتساهم في تجديد الحياة السياسية، فتونس الجديدة تستحق ممارسة سياسية عصرية جديدة. فهل ينجح محسن مرزوق في التحول الى زعيم سياسي ؟ وهل سينجح في جعل حركة "مشروع تونس" حزب تونس المستقبل؟ * مقال نشر بالتزامن في صحيفة الصريح الورقية و موقع حقائق أون لاين