ملف قطاع النفط من أقدم الملفات على الإطلاق، ملف ثقيل أرهقته التراكمات عبر السنين الإحتكار، الرشاوى، الصفقات والعقود المشبوهة، التفويت العشوائي، السرقات بالجملة، تهرب جبائي وغير ذلك. كلها حالات تستوجب وقفة عاجلة وتستدعي من الحكومة جهودا كبيرة للتقييم والتمحيص والدراسة لاستنباط خريطة طريق تنتشل هذا القطاع من براثن الإستغلال والهيمنة الأجنبية رموزها شبكات مافيوزية عالمية أمكن لها عبر الزمن أن تعشش في زوايا الظلام وتلهف في غفلة من الشعب قوته ورغيفه. ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة الذي أحيل على وكالة الجمهورية بتونس بتاريخ 8 جوان 2011 " ما يثبت من خلال الوثائق التي تم العثور عليها بمصالح رئاسة الجمهورية ضلوع شبكة كبيرة من المسؤولين بشركات وطنية وأجنبية في ممارسات مشبوهة على حساب منشآت عمومية تعمل في ميدان الطاقة بمشاركة افراد متواجدين بالخارج" هذه الشهادة اثارت حفيظة الرأي العام وأهل الإختصاص منهم للنبش في خلفياتها خاصة وقد رسخ لدى الكثير أن البلاد فقيرة من حيث الموارد البترولية والغازية تلك الفكرة التي سيقت إلى الأذهان منذ أجيال بدافع المغالطة إلا أنها لعبت دورا إيجابيا لدى المواطن من حيث الإعتماد على الذات دون الدولة والإنصراف إلى نقش الارض واستغلال القدرات الذاتية ليتنفس من ضنك الحياة ويقتلع رغيفه من الحجر إلا أنه فوجئ حين أدركته الثورة أن بلاده غنية بالثروات الطائلة من المواد الأولية والمعدنية والبترولية والغازية وغيرها، هذه المواد التي عوضا أن تستثمر في تحسين الوضع الاقتصادي والإجتماعي بالبلاد فقد لهفت وطالتها أيادي العصابات فعادت على المواطن التونسي بالفقر والتشريد والتغريب. ماهي الإشكاليات؟ عسى أن تكون هذه الثورة سبيلا للإستقلال الحقيقي وتكريس السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية لزاما مراجعة كل المنظومات وتفكيك مفاتيحها ومراجعة القوانين وتحرير اللزم والإتفقايات المشبوهة التي أبرمت مراكنة في الظلام اعتمادا على الرشوة وسوء التصرف وشراء الذمم باستشراف نظرة مستقبلية تحمي مقدراتنا الطبيعية وتتلائم مع التطورات الجديدة فقد بقي هذا القطاع رهين قيود قانون13ديسمبر 1948 و قانون 1جانفي 1953 و حتى تلك القوانين التي وردت بعدها كانت مجحفة و غير واضحة بل اعطت مزيدا من الضمانات و فرصة للشركات الاجنبية لمزيد الهيمنة اذ خولت لها حرية تحديد جهة التعاون على مستوى توريد المعدات و المستلزمات و تحديد شركائها وكفاءاتها وخصت تونس بإتاوة بسيطة قدرت ب10% وبنصيب محدود من النفط لتزويد السوق المحلية. إن الموارد والثروات الطبيعية الطائلة خاصة منها النفط التي تكمن في باطن الأرض في الشمال والوسط وخاصة في الجنوب اين توجد الاملاح والسباخ نظرا لوجود رابط جيولوجي بن السباخ والنفط وتعدد شركات التنقيب الأجنبية بات من الضروري التفكير في بعث هيكل وزاري يتولى بعث برنامج مستقبلي لهذا القطاع إلى جانب بعث شركة تنقيب وطنية تتولى القيام بأعباء هذا الملف لتحرير هذا القطاع من هيمنة الشركات الأجنبية الإستغلالية وكما هو معرف أن فرنسا مثلا أو بريطانيا ليس بهما نفط إلا أن لديهما شركات تنقيب عملاقة عابرة للقارات تتولى لهما تأمين إحتياجتهما النفطية أما في تونس فرغم وجود المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية التي تأسست سنة 1972 ورغم انخراط تونس في عضوية منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (OPAEP) سنة 1975 وهي المؤسسة التي عرف عنها مساعدة الدول الأعضاء في تطوير السياسة البترولية خاصة من حيث التشريعات فإن المؤسسة التونسية لم تقدر على حفر بئر واحد بل على العكس فقد ضاعفت الشركات الأجنبية من الضغط لمزيد من الإستغلال وابتزاز الحكومة خاصة عندما تدنت قليلا طاقة إنتاج حقلي عشتروت والبرمة ما دفع بورقيبة إلى استصدار القانون عدد 85/9 لسنة 1985وعرضه عند زيارته لوشنطن على رؤساء الشركات النفطية العالمية المنتصبة بتونس ورغم حظوته بالقبول إلا أنه لم يطور من مسؤولية المؤسسة التونسية التي أبقت على نشاطها في بيع النفط التونسي ذو الجودة العالية للخارج حسب أسعار السوق الدولية واشتراء نفط أقل جودة من الخارج يتم تكريره بشركة "ستير" ببنزرت وبيعه بالسوق المحلية ولا يعلم المواطن مآل الفارق بين سعر بيع النفط التونسي وشراء النفط الأجنبي. إن المعلومات الواردة في مجال هذا الملف هي شحيحة جدا إلا أنّ ما يفوح من رائحته ما يصيب بالزكام ويبعث على القلق والحيرة وبات من أوكد الحاجيات تفعيل المرسوم عدد 41 لسنة2011المتعلق بحق النفاذ إلى المعلومة لإزالة الشكوك والتمكن من بناء الرؤى الصحيحة بأكثر وضوح وشفافية خاصة ما يتعلّق بمعرفة أصول الدولة من عقارات وثروات وآبار نفطية وأسماء الشركات وغيرها وهنا قد تتنزل عدة أسئلة : أين اختفت دفاتر أملاك الدولة تلك المنصوص عليها بنصوص تشريعية وترتيبية والتي يروج حولها حديث كثير مثلما يروج من حديث عن وجود آبار نفطية لازالت تصب إراداتها لمنفعة بن علي وأزلامه؟ وكيف يتم استخلاص الجباية عن الشركات الأجنبية المنتصبة بالبلاد؟ وعلى أساس اي سند؟ هناك أسئلة عديدة تصرخ لفتح الملفات ذات العلاقة ومناقشتها بمنتهى الشفافية. الكلام ذو شجون إنّ الصفقة الأخيرة التي أبرمت مع قطر في خصوص انشاء مصفاة النفط بالسخيرة أثارت جدلا كبيرا لما اكتنفها من غموض وسرية حتى اعتبرها البعض مجازفة لافتقارها إلى دراسة اقتصادية وجيو سياسية موضوعية ومتأنية وهذا ما يحيلنا إلى ماضي ليس على عهدنا ببعيد ليذكرنا بعقود التشييد والإستغلال والتحويل المتعلقة بمطار النفيضة الذي وقع بنائه على أراض أثرية ولزمة مطار المنستير ومشروع محطة توليد الكهرباء برادس و اجتثاث مصفاة النفط بجرزونة ببنزرت والتفريط في معامل الإسمنت بالشمال والجنوب بعقود مريبة وقبل هذا وذاك عقود شركة " كوتيزال" (الشركة العامة للملاحات) التي يعود تاريخها إلى عام 1949 حيث أنشأت بمقتضى بروتوكول استعماري وهلم جرّا ... كلّها ملفّات تنوء بثقلها الجبال الرواسي أرهقت إقتصاد البلاد وبعثت به إلى التداعي والإنهيار والتداين. معذرة إن وقعت في هذه البؤر فالكلام ذو شجون إقتراحات ممكنة إن قطاع النفط في تونس لا بد أن يتنفس أكسيجين الثورة... ثورة من الإصلاحات الجذرية بمجازفة إيجابية تهيكل سياسة جديدة تدعم اقتصاد البلاد لعل أبرز ملامحها النظر في إعادة هيكلة الإدارة ببعث وزارة للمناجم والبترول والطاقة تسهر على تفعيل دور الديوان الوطني للمناجم وإعادة النظر في كافة القوانين والتشريعات وبالأخص مجلتي المناجم والمحروقات و بعث شركة وطنية للتنقيب على النفط على أنقاض المؤسسة التونسية للأنشطة بالبترولية ، تنشيط العلاقات الدبلوماسية مع البلدان النفطية لتبادل التجارب والخبرات، ضبط طرق جديدة لإسداء الرخص المنجمية أعتقد أن هذه المسائل – بعض من كل – جديرة بأن تجد " مسربا" بين الطرق إلى طاولة الطرح.