من يقولها ؟ لا يقولها الجاهل الذي يدّعي في العلم فلسفة بل يقولها العالم المتواضع أمام الخالق الذي وسع كلّ شيء علما . وقد قلتها لتلامذتي مرّة أو مرّتين طوال الأربعين سنة من التدريس. قلتها فتعجّبوا من إعلان جهلي فيما سألني عنه أحدهم فبيّنت لهم أنّي ما أوتيت من العلم إلاّ قليلا ليصدّقوا ما أقول لهم وليبحثوا فيما لم أبيّنه وعمّا لم أقله . وعسى أن يتعلّموا الصيد فلا ينتظروا منّي سمكة كلّ يوم . أقول هذا ولا أتبجّح بالتواضع بل لأنّي ما زلت أتعلّم وأنا في سنّ التقاعد، وما انقطعت عن طلب العلم من المهد ولن أنقطع عن طلبه إلى اللّحد . وغيري لا يقولها حفاظا على « سمعته» كمعرفة كاملة بسخريّة الدوعاجي من الدليل السياحي في بومبايي ، ومحافظة على صورته المضخّمة بحجم البرميل المقرقع، وهو مجوّف نخب هواء كما قال الشاعر القديم . ألاّ يقولها المربّي ، إذا وجب قولها ، فهذا خطير . وأخطر منه ألاّ يقولها الوزير، إذا وجبت مصارحة الشعب بالحقيقة المؤلمة . فها نحن نعرف كلّ شيء إلاّ أنّنا لا نريد أن نعرف أنّنا في الطريق إلى الهاوية ، لا قدّر الله . ولكنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم . فهم المسؤولون عن أمانة استخلافه في الأرض ، كلّ في وطنه . وما أعظمها من أمانة أبتها السماوات والأرض وأشفقن منها ! أمانة أساسها العمل، والعمل عبادة . أمّا نحن ، فنستخفّ بالعمل والعبادة. ولا نقدّر مسؤوليّة الأمانة . ولسنا خير أمّة أخرجت للنّاس بشهادة عيوبنا التي كشفت عنها ثورتنا « المجيدة». ومن تلك العيوب تضخّم الأنا في كلّ ذات منّا، وادّعاء التفوّق في كلّ شيء على العالمين بمظاهر خدّاعة سرعان ما ينكشف سرابها ويفتضح زيفها. ومن تلك العيوب أيضا أن نعمّم ونعوّم المسؤوليّة فلا تناط بأحد بل نتقاذفها كالكرة بيننا بقولنا « المسؤوليّة جماعيّة « دون أن يتحمّلها منّا أحد. كلّنا ضدّ الفساد . ولكن لا يقاومه أحد ، فردا كان أو هيئة . وكلّنا مع النظافة. ولكن لا أحد يقوم بواجبه في محيطه . وكلّنا ضدّ التهريب. ولكنّنا نشجّع بارونات الديوانة وأسواق الجملة والتجارة الموازية بالإقبال على السلع المستوردة ولو كانت مغشوشة « مضروبة» كما يقال . وجميعنا يتذمّر من غلاء الأسعار ويستنكر الاحتكار. ولكن لا يقاطع بضاعة و لا يتقشّف في إنفاق . بل يتعدّى طاقته إلى حدّ الاقتراض في شعبان أو في رمضان. كلّ هذا لأنّنا لا نعرف أين نمضي وكيف نتصرّف. ونتصوّر أنّنا نعرف أكثر من العارفين، وأنّنا فوق النقد، النقد الذاتي أو نقد الآخرين. أمّا أنا فسأعلنها بكلّ تواضع: أنا خارج عن ضمير الجمع « نحن». وسأقولها بكلّ جرأة: لكم حزبكم ولي حزبي، لأنّ كلّ ما أعرفه أنّني لا أعرف. وما دمت أطلب العلم والمعرفة فأنا إنسان يقظان، جدير بالحياة خلفا لسلف. أنا أحيا لأعرف، وأعرف لأحيا . وما توفيقي إلاّ بالله فيما علّم آدم من الأسماء وبما علّمني المؤدّب والمعلّم والأستاذ والكتاب من الحروف والأرقام ومشتقّاتها العظيمة.