إن كثرة الحديث عن مواضيع معينة لا يعني البتة الإلمام بأبعادها كافة الشيء الذي يجعل من الحديث عنها منقوصا رغم كثرته. ولعل مفهوم الفساد يندرج ضمن المفاهيم والظواهر التي تعاني من النقص في الرؤية والمقاربة. فلقد أصبح مفهوم الفساد في السنوات الأخيرة من أكثر المفاهيم تواترا في الخطابين الإعلامي والسياسي سواء في بلادنا أو في بلدان عربية عدّة. بل إن التركيز على هذه المسألة أصبح يندرج في بعض السياقات ضمن محاولة إثبات المشروعية السياسية وتحقيق شعبية ورفع الأسهم في السوق السياسيّة في مجتمعات عانت من الفساد. وتعتبره معوقا من معوقات عدم نجاح مشاريعها التنموية ونهوض اقتصادها. من هذا المنطلق نود طرح مسألة الفساد وكيف نتمثلها حقيقة وهل هناك وعي معمق بالفساد وأبعاده المتعددة؟ يبدو لي أنه قد آن الآوان في بلداننا ونحن نتحدث عن الحوكمة والحكم الرشيد وكيفية الإصلاح أن نبذل جهدا جديا وصادقا في تفكيك مفهوم الفساد وإخراجه من بوتقة المعنى الواحد المباشر المحسوس والمقبوض عليه. لا شك في أن الفساد، هذه الكلمة المخيفة، التي بات يرتجف منها كل سياسي وأصحاب الحقائب الوزارية والتي أصبحت تعادل الفضيحة والخنجر الذي يمكن أن يُغرس في نعش أي سياسي بارز أو مسؤول مهم ..لا شك في أنّها تعني طبقا للفهم المتداول التورط في تجاوزات مالية والتصرف في المال العام بطريقة منحرفة .وطبعا فإن مثل هذا السلوك هو فساد واضح ويخضع كشفه إلى ملف واضح الوثائق والبيانات . ومثل هذا الفساد لا بد من التوضيح ليس دائما من السهل إثباته. لذلك فإن التخفيف منه عادة ما يرتبط بحسن اختيار الأشخاص وتوزيع المسؤوليات كي لا تتجمع في يد واحدة باعتبار أن البيروقراطية ورهن المسألة المالية في يد واحدة تنتج عنه ديكتاتورية فجة تطل على الاستباحة والانحراف. إذن الفساد في أوله وفي أحد أهم أبعاده هو مالي بالأساس ونحن إذ نولي كل الأهمية لهذا البعد مع التغاضي عن المظاهر الأخرى فلأن الفساد المالي يضر بثروة البلاد ويضعفها وينخرها مما يؤثر على حجم الثروة وكيفية توزيعها وميزانية الدولة ومداخيلها ومن ثمة على الشعب ككل الذي ستجد الدولة نفسها بسبب تراكم جرائم الفساد المالي غير قادرة على الإيفاء بمسؤولياتها اليومية العادية تجاه المواطنين وأيضا تنفيذ مخططاتها التنموية. ولكن ما يهمنا حقيقة في هذا المقال والهدف الأول من إثارته ليس التوقف عند هذا البعد رغم أهميته بل إن القصد الجوهري هو لفت الانتباه إلى أن الفساد ليس ماليا فقط. وإن هناك مظاهر أخرى وأبعادا أخرى قد تكون أحيانا أكثر خطورة وهي المنتجة أحيانا والمشجعة بشكل كبير لظهور الفساد ذي الطبيعة المالية.