لا نبالغ لو نقول إن أسوأ سياسيين في العالم هو سياسيو تونس سوى الذين في الحكم أو في المعارضةَ! ودون الحديث عن البلدان المستقرة المتقدمة فالسياسيون في ليبيا او العراق او سوريا او اليمن «لا لوم عليهم» باعتبارهم استلموا دولا منهكة مخربة شعبا متقاتلة متناحرة بالنزاع الطائفي والقبلي والتدخل الخارجي العسكري. أما عندنا فقد استلموا دولة قائمة فهدموها وشعبا متجانسا متآلفا فأوقعوا بينه الفرقة والعداوة والمشاحنات (دون ان ننسى طبعا ان السياسيين عندنا في أغلبهم لم تكن لهم قيادة ولا حتى مشاركة في الثورة الشعبية العفوية!!) ربما يقول قائل: الخلل ليس في النخب والقيادات في حد ذاتها وإنما يكمن في التنافر الشديد بين مختلف تياراتها تأكيدا لقاعدة «اتفق العرب على أن لا يتفقوا» وربما هذا صحيح، ولكن أليس من الاستهتار الخطير عدم أخذ هذا بعين الاعتبار؟ قبل انتخابات اكتوبر بأكثر من شهر (يوم 19 سبتمبر 2011) كتبت مقالا بهذه الجريدة المحترمة الشروق بعنوان: لأجل الوفاق الوطني وفيه دعوت الى اجتناب الانتخابات والاستعاضة عنها بالتوافق المطلق بين جميع الأحزاب (طبعا التي تستظهر بحد أدنى من التزكية الشعبية المباشرة) وكانت خاتمة مقالي ختاما لقد استطاع الشعب التونسي بفعل الارادة الموحدة والحماس الثوري النقي، أن يتقدم بمفرده دون املاءات خارجية او حتى داخلية ويسقط الدكتاتورية لكنه الآن وقد خارت قواه بعد تفكيكه أحزابا متصارعة يتوقف حائرا مرتبكا في مفترق طرقات ضبابية أكدت الاحداث مازلت تؤكد انه لا خلاص منها ومن تبعاتها الا بالوفاق الوطني.. ولقد أكدت السنوات العجاف التي مرت صحة هذا التخمين... الديمقراطية ليست من الكماليات بل هي ضرورة متأصلة ومن المستحيل ان تكن مستوردة فلكل شعب تصوره الخاص للديمقراطية وهو تصوّر مرتبط بتراثه وامكانياته الرمزية والمادية... الديمقراطية فطرية في الانسان لتميّزه عن الحيوان بالحرية وبالعقل. وكل اسلوب حكم يضمن هذين الامرين الجوهريين يعتبر حكما رشيدا، او بلغة العصر «ديمقراطيا» لكن العقلية التغريبية فرضت علينا لبرالية هجينة بكل ما يتبعها من صراعات حزبية وتراث سياسي أوروبي وسلوكيات غريبة عن بيئتنا وعقليتنا. وكل هذا بمزاعم «المركزية الغربية» مزاعم «الاصل اليوناني الأثيني للديمقراطية» (متجاهلين ان الديمقراطية الأثينية قسمت الناس الى أسياد وعبيد محرومين من أدنى مشاركة. أما الاسلام فقد جعل منهم أئمة وأمراء جيش وولاة على الأمصار وقد اقر بهذا حتى طه حسين في كتابه الوعد الحق بعد ان استفاق طبعا من كتابه مستقبل الثقافة في مصر ...). الديمقراطية الليبرالية سراب وخراب ودمار وعبودية ولننظر الان الى بلادنا (ناهيك عن غيرنا من الأشقاء المنكوبين) وقد صارت مرهونة بالمديونية ومازالت تتمسح على الأعتاب دون ان تجني شيئا من عشرات الاحزاب «الديمقراطية» وآلاف المنظمات «المدنية» والهيئات العليا والمراصد العليا والمجالس العليا والهيئات التحررية واللجان التقدمية و«أحس دستور في العالم». إن حمى الديمقراطية الحالية التي خلقت بيننا عداوات حزبية افتراضية نحن في غنى عنها تذكرنا ب«حمى» الاشتراكية أواسط القرن الماضي بل حمى الاشتراكية اقل كارثية فهي «حمى حميدة» لما فيها من حميمية ووحدة وطنية وتوزيع عادل للثروة. اما الحرية المجردة كما تقدمها هذه الديمقراطية الليبرالية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي ضحك على الذقون، وصدق من قال: في الحاجة تكمن الحرية!