كان لبورقيبة لقاءات أسبوعيّة مع جمع من نخب الشعب التونسي يتداول فيه معهم أهمّ المستجدّات في الساحة التونسيّة وكذلك ما يجدّ في الساحة العالميّة وبالخصوص ما له انعكاسات على الأوضاع في تونس وهذه اللقاءات كانت تذاع عبر الأثير ويستمع إليها المواطن فيتعرّف على كلّ ما له علاقة بحياته اليوميّة وبمستقبل بلاده حتى لا تفاجئه الأحداث. وفي شهر مارس من سنة 1962 وصادف أن تزامن هذا الشهر مع شهر رمضان المعظّم الذي كان ولا يزال شهر الجشع من المستهلك الذي لا يستطيع كبح جماح شهواته فكأنّ هذا الشهر هو شهر الإنفاق والتبذير والملذّات وليس شهر العبادة وكبْح الشهوات ويقابله من الناحية الثانية جشع التجار الذين يريدون استغلال هذا الإقبال المفرط للمواطن على الاستهلاك لممارسة الاحتكار والزيادة في الأسعار فكيف كان بورقيبة يعالج هذه الأوضاع فلنستمع إليه وهو يخاطب الإطارات ومن خلالهم الشعب التونسي حول هذا الموضوع: «في هذا الظرف الصعب بالنسبة لتونس ولكلّ العالم رأيتُ أنّ من واجبي أن أجتمع بكم هنا أنتم الذين تمثّلون جزء من النخبة الوطنيّة والذين لكم تأثير على سير الأمور في هذه البلاد و المساهمة في نجاح الدولة. استدعيتكم لهذا اللقاء من أجل حوار صريح حول مواضيع تبدو لكم من أوّل وهلة لا أهميّة لها وليس لها أي علاقة بالمواضيع السياسة العالميّة التي ذكرتها لكم لكن في الحقيقة هذه المواضيع حياتيّة بالنسبة للشعب التونسي ولحكومتنا الفتيّة.إنّ الفكرة الأساسيّة التي أريد أن أُقْنِعُكم بها هي الروابط المتينة بين الأشياء التي تبدو بسيطة وبين معركة إعادة البناء لتي نخوضها وكيفيّة الخروج من هذه المعركة .فماذا وقع في الأيام الأخيرة؟لقد سجلنا بعض الزيادات في الأسعار خاصة في المواد الغذائيّة وهذه الزيادات سببها هو المزايدة على المواد الغذائيّة .فالسلط لم تتأخّر في القيام بواجبها فكان هنالك إيقافات ومحاكمات وعقوبات صارمة فأنا مثلكم تابعتُ نقل هذه المحاكمات في الراديو . وتَمَعَنْتُ في الاستجوابات وإجابات المتّهمين واستمعتُ للأحكام التي وصلتْ إلى خمس سنوات سجن عندها شعرتُ أنّ عددا من المواطنين لم يفهموا جيّدا خطورة هذا الموضوع. فما شدّ انتباه المواطنين لم يكن ضرورة الضرب بقوّة على الارتفاع الغير قانوني في الأسعار بل ما شدّ انتباهم هو هذه الشدّة –في نظرهم –التي وقع بها الردع.فكيف نحكم بهذا الكمّ من سنوات السجن على هذا الجزّار الذي باع بضاعته ب600 مليم الكيلو غرام عوضا عن550 مليم؟ أو على هذه المرأة المسكينة التي تدعى»تفّاحة» التي لم ترتكب من الذنوب سوي أنّها باعة البيض ب3أو 4 مليمات زائدة على السعر المحدّد. فالأحكام ظهرتْ للبعض أنّه مبالغ فيها وذهب البعض الآخر إلى أنّ رئيس الجمهوريّة سيمنح العفو لهؤلاء التجّار المساكين(تصفيق في القاعة علامة على تأيد العفو)إن أنتم تصفّقون فمعناه أنّكم مع من هم مع التسامح ومعناه أنّكم لم تفهموا ضرورة العقوبات الصارمة .لهذا جمعتكم اليوم لأشرح لكم أهميّة هذا الموضوع وأقنعكم بأنّ هنالك علاقة بين الأحكام القاصية ونجاحنا في معركة التخلّف. ....أريد أن تَتَيَقَنُوا أنّ رئيس الجمهوريّة لا يتردّد في الموافقة على الأحكام الصارمة فلا تسامح ولا رأفة تجاه الأشخاص إذا كانوا بتصرّفاتهم قد يعطّلون النجاح في معركة انخرط فيها الشعب بأكمله. لكن إذا لاحظ أنّ الهدف من هذه الصرامة قد تحقّق وأنّ الدرس قد أتى بالنتائج المرجوّة وأنّ المتّهمين أنفسهم قد فهموا خطورة أفعالهم فإنّ رئيس الجمهوريّة لا يرى أي مانع في الإفراج عنهم حالا فالمهمّ هو ليست العقوبات التي لحقت هؤلاء الأشخاص والأتعاب والمشقّة التي لحقت عائلاتهم بل ما يهمّ هم الانسجام في هذه الدولة فما يهمّ هو أنّ الأمّة تفهم سياسة الدولة وأنّها مقتنعة بضرورة السير في المنهاج الذي سطّرته الدول أمّا بالنسبة للدولة فهي تخيّر دائما أن يسود الانضباط بالوفاق والتفاهم».... وأنا أنقل للقارئ الكريم هذا الجزء من الخطاب كنت أفكّر في الاستنتاجات الضروريّة التي يجب أن أقف عندها حتى يستنير بها القارئ لكن اتّضح لي صعوبة هذا العمل إذ الخطاب محمّل بالدروس والمعاني والعبر التي قد يطول شرحها والوقوف عندها بالتفصيل إذ الدروس متعدّد والعبر التي علينا العمل بها عديدة فبورقبة في هذا الخطاب كان رجل الدولة بعيد النظر مع صرامة في المواقف التي فيها مسّ من قوت المواطن وهيبة الدولة لا يخشى في الحقّ لومة لائم هاجسه الوحيد هو مصلحة الوطن وتوفير كلّ وسائل النجاح للخروج به من ما ران عليه طوال عصور من جهل ومرض و فقر. فما أحوج المواطن والحاكم اليوم لهذه الدروس إذ استفحل الفساد والتلاعب بقوت المواطن أمام أعين دولة عاجزة على تطبيق القانون و «بارونات» و«مستكرشين» شجّعهم ضعف الدولة على المزيد من التلاعب بمصالح المواطن المتوسّط الحال الذي لا حولى له ولا قوّة وفي النهاية هو الوحيد الذي يتحمّل أعباء هذا الفساد الجارف الذي جرف كلّ أمل له في تحسين أوضاعه التي هي في تدهور مستمر إذ مع مرور الأيام فهو ينام على مشاكل يومه ولا يعلم ما سيأت به غده من مشاكل. أمّا بورقيبة فقد خاطب الشعب من خلال نخبه بأسلوبه البيداغوجي المعبّر لتبليغ مدى المضرّة التي تلحق الشعب من الفساد إن سكتَ عنه الحاكم وتعاطفَ الشعب مع المفسدين وكان الدرس قاسيا على إطارات الدولة الذين لم يدركوا أهمّة التشدّد في العقاب وتعاطفوا مع المطالبين بالتسامح فأرجعهم بورقيبة للجادة وشرح لهم أنّ العقاب الشديد كان لأسباب تربويّة حتّى يُقْلِعَ كلّ من تُحَدِّثُه نفسه التلاعب برغيف المواطن ثمّ إنّ مقاومة الزيادة في البيضة واللحم بهذه الشدّة هو مؤشّر للحيتان الكبيرة على أنّ وقوعهم بين أيدي القضاء ستكون الأحكام فيها قاصية وقد تصل للمؤبّد. أمّا المقارنة بين ما نعيشه اليوم من انتشار الفساد والتلاعب بالمواطن بل وبمقدّرات الدولة المقبلة على الإفلاس من مهرّبين ومحتكرين ومفسدين نعرفهم ونعرف مخازنهم ونعرف أماكن انتصابهم ونعرف البنوك الموازيّة التي يمرّرون فيها العملة وخاصة الصعبة منها ولا تحرّك الحكومة ساكنا إلّا لما هو لغير الله ونعمل بقاعدة «يجعل بلاهم على غير يدينا» والمصيبة الكبرى أن نصرف المليارات لتسيّر هيئة مقاومة الفساد والفساد أمامنا يكاد يهجم علينا ولا ينتظر هيئات ولا تقارير بل ينتظر حكومة حازمة حزم بورقيبة حكومة مخلص للمواطن والمواطن حكومة لا يأخذها في الحقّ لومة لائم حكومة نتمنّاها بعد محطّة 2019.نعم لأنّ اليوم ينطبق على تونس وحصّل ما في الصدور فلنصارح بعضنا من يترقّب الإصلاح اليوم ومن يتحدّث عن البرامج الإصلاحيّة هو كمن يحرث في البحر إذ الاستثمار الحقيقي الذي على الشعب أن لا يفرّط فيه بنزواته و بعواطفه هو أن يحسن اختيار نوّابه في انتخابات 2019 إذ لا يخفى على أحد أنّ الإصلاح لا يكون إلّا بإصلاح مجلس النوّاب صاحب السلطة الواسعة والذي لا يمكن لتونس أن تنجح إلّا بحسن اختيار أعضائه. أمّا اليوم فكلّ يد شدت أختها» فعلينا أن لا ننخدع ونقول لمن يتحدّث اليوم عن النهوض بالتنمية وإصلاح الاقتصاد والماليّة العموميّة نقول له أين كان هذا الحرص منذ أربع سنوات؟ رغم أنّ المؤمن غرّ فهو كذلك لا يلدغ من جحر مرّتين فالشعب التونسي عليه أن يقول للحكّام والنوّاب «إن شاء الله توبة»كما أنّ عليه اليوم أن لا ينسى المقولة الطريفة التي سأروي قصّتها في مناسبة أخرى وهي«إن شاء الله كلّ ما زَمَرْنَاهْ وُطَبَلْنَاهْ لِله».