لا أحد ينكر أنّ قضيّة اغتيال الشهيدين قد مرّت بمراحل فيها محاولات تضليل وتعتيم من جهات كثيرة ذلك أنّ هيئة الدفاع قد عقدت كثيرا من الندوات الصحفية اتّهمت فيها تورّط عديد الأطراف في الاغتيال كما كشفتْ أنّها لم تكن راضية على المسار القضائي للقضيّة بل هي في كثير من الأحيان وجّهت اتّهامات بمحاولة تشتيت الملفّ وحتى إتلاف بعض وثائقه كما أنّ الهيئة لم تخف اتّهامها لبعض الأطراف التي تعاملت مع القضيّة إلى حدّ التجريح وحتّى تقديم القضايا ضدّ أحد قضاة التحقيق.. . إلى أن كان يوم 2أكتوبر 2018 حيث عقدت هيئة الدفاع اخر ندوة صحفيّة و كشفت فيها عن الكثير من الوثائق التي تلقي أضواء جديدة على القضيّة والتي تنطلق من أنّ الجهاز الخاص الذي كان للنهضة سنة 1987 والذي قد أعدّ العدّة البشريّة والماديّة وخاصة العسكريّة من سلاح وعسكرييّن للانقضاض على الحكم يوم 8 نوفمبر 1987 وذلك بشهادة موثّقة للقيادي النهضوي البارز المنصف بن سالم في كتابه»سنوات الجمر «الذي طبع في الكويت ثمّ جمع قبل أن ينزل للسوق وقد طرحتْ هيئة الدفاع هذا الموضوع وقدّمتْ الوثائق التي بين يدها مع فرضيّة أنّ هذا الجهاز الخاص ما زال موجودا وأنّ له علاقة بالاغتيالات السياسّة وعبّرت الهيئة على استعدادها لوضع ما تملكه من وثائق بن يد القضاء لكن بضمانات و تؤكّد أنّها سوف لن ترتكب الأخطاء التي ارتكبتها سابقا ذلك أنّ كثيرا من وثاق القضيّة قد أتلفتْ وسرقتْ في مستويات عديدة وخاصة تلك التي اختفتْ من بيت المحجوز في المحكمة (كمبيوتر الحكيم الذي يتضمّن معلومات هامة) ففي هذا المستوى الذي تراوح فيه قضيّة شكري بالعيد والبراهمي مكانها منذ ما يزيد على ستّ سنوات ولم تعرف تقدّما ملموسا حتّى لا نقول هي في تراجع مستمرّ لعدّه أسباب أهمّها اتلاف الإثباتات التي لها علاقة بالملفّ بفعل فاعل. وحيث أنّ هذه الجريمة قد مسّت كلّ التونسيّن فهي ليست قضيّة الجبهة الشعبيّة ولا الحزبين اللذين ينتمي لهما الشهيدان فمن حقّ كلّ تونسي أن يتساءل لماذا ما زالت كلّ هذه العراقيل تقف في وجه القضيّة ومن المتسبّب في ذلك وهل كان في الإمكان أن تتجاوز هذه القضيّة وضعيّة الجمود التي تلازمها؟ قبل الإجابة عن هذه التساؤلات وتمهيدا لذلك أرجع إلى ما بعد انتخابات 2014 وقد انتخب الشعب التونسي الباجي رئيسا للجمهوريّة وحاز حزبه المرتبة الأوّلى في التشريعيّة وكُلّف النداء بتكوين الحكومة وقد كوّن» الحبيب الصيد» حكومة أولى بدون حركة النهضة ولكن سرعان ما وقع حلّها إذ وزير من حزب من الأحزاب الذي له كتلة نيابيّة قد استقال معنى ذلك أنّ حكومة الشاهد سوف لن تكون لها الأغلبيّة التي تجعلها تحوز على ثقة البرلمان أوّلا وتعمل في أريحيّة ثانيا وذلك بتمرير مشاريع القوانين والقيام بالإصلاحات الضروريّة هنا وجد الباجي- الذي فعلا لم تمكّنه الصناديق من الحكم وحده-نفسه مضطرّا للتحالف وذلك لتمرير حكومة الصيد الثانية أمام البرلمان وكانت الكتلة التي من الممكن أن تساند النداء وتقصي النهضة وتضع الباجي أمام الأمر الواقع أمام الشعب وأمام الندائييّن هي خاصة الجبهة الشعبيّة فإمّا أن يقبل الباجي الحكم مع بقيّة الأحزاب وخاصة الجبهة الشعبيّة ويقصي النهضة أو لا يقبل هذا الطرح وبذلك فإنّ مبرّره «الشعب لم يعطه ما يكفي ليحكم وحدي» سيسقط فعلا ويتّضح لكلّ التونسيّن أنّ الباجي قد خان الأمانة عندما قال النهضة والنداء خطّان متوازيان لا يلتقيان وأنّه ملتزم مع النهضة منذ لقاء باريس. . فالجبهة الشعبيّة وكانت قادرة مع قليل من الحنكة والتبصّر على ضرب عصفورين بحجر واحد لو ابتعدتْ عن الدمغجة وأعلنت عن تحالفها مع النداء لتكوين حكومة بدون مشاركة النهضة عندها تكون النتيجة إمّا أن يرفض الباجي عدم مشاركة النهضة وبذلك يسقط إدّعاؤه أنّ الشعب لم ينتخبه ليحكم وحده ويكون موقفه شديد الحرج أمام الشعب التونسي وخاصة أمام جانب كبير من الندائييّن الذين انتخبوا النداء والباجي لأنّه وعدهم بأن لا يضع يده في يد النهضة وقال للناخبين الجملة التاريخيّة:» بِحيْثُ من لا ينتخب النداء فقد انتخب النهضة» لكن رفض الجبهة الشعبيّة المساهمة مع النداء في الحكومة برّر نوعا ما تحالف الباجي مع النهضة وبذلك لم تقص النهضة من الحكم و استطاعتْ أن تتسلّل لمفاصل الدولة ورضيتْ بعدد من الوزراء لا يتماشى وحجمها البرلماني الحقيقي إذ المهمّ بالنسبة لها أن تتواجد في الحكم و هدفها هو أن تبقى الحارس الأمين حتى لا تفتح الملفّات التي استطاعت إخفاءها في حكم الترويكا وهي كثيرة وبقية فعلا مسكوت عنها كإغراق الوظيفة العموميّة بأتباعها و تسفير الشباب إلى بؤر التوتّر و ما سمعناه أخيرا من محافظ البنك المركزي عن الأموال التي دخلتْ لتونس في عهد «الترويكا « بطرق غير شرعيّة وخاصة مواصلة السيطرة على ملف قضيّة الشهيدين بالتواصل مع من جنّدتهم وهي في الحكم من الجهات القضائيّة والأمنيّة التي تقول هيئة الدفاع أنّ بها عناصر مازالت تتعامل مع النهضة التي لم ترفع يدها كليّا عن المؤسّستين بفضل الأمن الموازي الذي زرع منذ تولّي العريّض وزارة الداخليّة وكذلك التأثير المتواصل على بعض الجهات القضائيّة من خلال البحيري الذي كان الحاكم بأمره في وزارة العدل والذي بتواجد النهضة في الحكم لم يفقد كلّ أوراق الترهيب والترغيب في هذا الميدان. والخلاصة هي لو كان للجبهة الشعبّية «رأي سداد» أي بعد سياسي وابتعدتْ عن الإيديولوجيات التي لم يعد لها مكان في سياسة اليوم وتحلّتْ ببعد النظر وتقديم الأهمّ على المهمّ(قاعدة بورقيبيّة) لوقف الشعب التونسي بوضوح كامل لا عن التَخْمِينات بأنّ الباجي ملتزم مع النهضة منذ لقاء باريس وأنّ الصنادق لم تمنحه ما به قادر على الحكم ولعرف الشعب أنّ ما ذلك إلّا تمويه لأنّه مرتبط مع النهضة والدليل أنّه رفض تحالف مع الجبهة وبعض الإتّجاهات الأخرى وبذلك توقعُ الجبهة الباجي في ورطة لا مخرج له منها أمام الشعب التونسي .لو لعبت الجبهة هذه الورقة كان من المكن أن يكون موقع النهضة في المعارضة وسترفع يدها عن الملفّ المتعلّقة بها مثل الاغتيالات وتجد هذه القضيّة الشائكة طريقا للحلّ ويعرف عندها الشعب التونسي هل ما تردّده الأغلبيّة من أنّ للنهضة يد في هذه الاغتيالات صحيح أم هو مجرّد اتّهام عندما يبرّئها القضاء العادل بعد أن رفعتْ يدها عنه..