تابعت كغيري من التونسيين المعنيين بالشأن العام، جلسة نيل الثقة للتحوير الوزاري من البرلمان، ونمت ولربما كغيري كذلك حزينا مهموما، مكروبا على ما نحن فيه من غياب للمعايير وتحديد للمصطلحات وخلط عن جهل أكيد وأحيانا أخرى عن قصد إيديولوجي أو نزوع بيولوجي للعنف والشجار والتطاول والإستهتار بكل مقومات الحوار: كنا ننتظر من نوابنا المحترمين تحت قبة برلماننا الموقر، أن يقدموا لنا صورة أخرى غير هذه الصورة البائسة والمقززة التي ظهروا بها أو على الأقل ظهر بها بعضهم وهم يناقشون بيان رئيس الحكومة السيد «يوسف الشاهد» الذي قدم به لهذه الجلسة التي انتظرها التونسيون طويلا ولعل أغلبهم ناموا مثلي حيارى حزانى مهمومين. كنا ننتظر نوابا إيجابيين هادئين مبادرين بما يرونه من مقترحات ومبادرات لتحسين أداء الحكومة ولكننا رأينا وليتنا ما رأينا نوابا «لعّانين شتّامين» ذكرونا بقولة «ابن المقفع» عن «الحجاج».. «كان سيفه ولسانه في غمد واحد»، وشعاره «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها...» لقد جفاني النوم ليلة الاثنين من هول ما رأيت وما سمعت فهجرت مضجعي باتجاه مكتبي أبحث في أوراقي وكتبي... عن فلسفة الحوار، ومقومات الخطاب وشروط التواصل الثقافي الحضاري وقواعده. لقد اهتم الفلاسفة والمنظرون بالحوار وفلسفته منذ «سقراط» إلى يوم الناس هذا وفي أحد أبحاثه المتميزة قدم لنا الفيلسوف التونسي «فتحي التريكي» مدخلا شافيا ضافيا لمعنى الحوار.. وانتاج المعنى وثقافة التواصل وتذكيرا بما جاء في هذا المدخل وغيره نقول: لقد دأب الفكر السياسي منذ نشأته على استعمال الخطاب الموجه الى الناس دون واسطة ودون تشارك في التفكير لأن همه الأول هو الإقناع وغايته الثانية هي الإنضواء تحت إيديولوجيا معينة والخطاب هنا هو مجموعة متواصلة غير متقاطعة من القضايا والجمل تستند إلى معنى وتقوم على نظرية كبرى أولية تحاول تمريرها بينما يكون الحوار مشاركة في بناء القضايا واكتساب المعنى وتحديد النظرية والقضية واستخلاص النتائج. ويجدر بنا أن نذكر بحادثة موغلة في القدم تذكرها المراجع الفلسفية ويعود لها دائما أساتذة الخطاب وتحليل الخطاب. تقول الحادثة: «ان سقراط عندما اتجه إلى زعيم الخطباء في أثينا» «غورجياس» وطلب منه التحاور في قضية الخطابة، اشترط عليه أن لا يخرج عن منهجية التحاور بمعنى أن لا يلقي خطبه مهما اشتد النقاش وحمِي وطيسه، فقبل زعيم الخطاب هذا الشرط، وعندئذ اتفقا على أن ينسحب كل من يقوم بخطبة ويعلن فشله لأن الحوار يعتمد التحقق من كل مسألة مطروحة ومن كل برهان إيجابيا كان أم سلبيا بحيث إذا تم قبولها من قبل المحاورين ومن قبل الجمهور الحاضر فإنها ستكون معقولة وبالتالي قريبة من الحقيقة. أما القضية المرفوضة فيمكن نفيها أو إعادة النظر في مكوناتها أو براهينها، ولكن الخطبة تقود الخطيب نحو إقرار أفكار غير صالحة أو غير حقيقية أو متناقضة وأحيانا بدون معنى لأن غايتها إجبار السامع بالعنف الرمزي والخفي المقنع على قبول هذه القضية مهما كانت قيمة حقيقتها لأن تقوم على النجاعة ولا على الحقيقة. ما أردنا أن نذكر به من إدراج هذه الحادثة في هذه «المقدمات» وبمناسبة ما رأيناه وما سمعناه تحت قبة البرلمان هو أن للحوار شروطا أوّلها أن يبقى كل حوار بعيدا عن الإنفعال الإيديولوجي والعاطفي ثم أن تكون هنالك قابلية بين المتحاورين لفهم آراء الآخر ومناقشتها بكل حرية دون خوف ودون تعطل جرّاء حسابات مسبقة أما الشرط الثالث للحوار فهو إنتاج المعنى والإضافة، فمهما كانت حدّة الحوار سيكون هو الواصل الدائم بين المحاورين وهو الفاتح لآفاق التعايش والتسامح. ولا بد أخيرا من شرط رابع ونعني به أخلاقيات الحوار وأدبيات النقاش والمناظرة... وأهمها احترام الآخر محاورا أو سامعا أو متابعا، وقد وضع الفيلسوف «هابرماس» نظرية شهيرة في أخلاقيات المناقشة أرادها نموذجا للمجتمع الذي اختار الديمقراطية لتسيير شؤونه. ونعود هنا لبعض النواب لنقترح عليهم بلطف العودة إلى النموذجين «السقراطي» و»الأفلاطوني» من جهة و»الهابرماسي» و»الكانطي» من جهة أخرى لاستخلاص أهم الشروط الأساسية لكل حوار ممكن تحت قبة البرلمان أو على شاشات التلفزات أو في غيرها من الفضاءات العمومية وتطبيقها على شؤوننا السياسية والاجتماعية والفكرية إذا أردنا فعلا أن نوطن الديمقراطية من أجل مجتمع مدني حداثي ومتحضر.. وكل تحوير وبرلماننا هائج، صارخ، بعض نوابه شتامين لعّانين.. وقد منع الإمام «علي» اثنين من أنصاره خرجا يسبان أهل الشام فقالا له: «ألسنا على حق...» قال: «بلى»، قالا: «فلم منعتنا من شتمهم؟» قال:»كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين» وقد كانت كلمات «علي» في خدمة النبوة أما كلمات «معاوية» وعماله فقد أنهت مسيرة الرشد.