من اكتفى بالعنوان ظنّ أنّي أرحّب بضيف مبجّل، ولكنّ الذي يرحّب هو زميلي سابقا، والمرحّب به – وبالأحرى بهم – هم تلامذتنا بالاشتراك، مع فارق أنّه يدرّسهم مادّة أساسيّة ضاربها « إذا ضرب صرع» كما يقال، وعلى قدره وقدرها سعّرت حصص الدروس الخصوصيّة فصارت سعيرا يحرق الشهريّة ويؤرّق البال. قال لهم – على حدّ قوله لي – : «أهلا وسهلا « وزادهم « مرحبا» في الحصّة الأولى المخصّصة للتعارف وعرض البرنامج والاتّفاق على المناهج والوسائل. وفاجأهم ليعرّفهم بما هم مقدمون عليه بملاحظة أنّ البرنامج طويل، أطول من السنة الدراسيّة، وبأنّهم متخلّفون فيه نتيجة انقطاع الدروس طيلة العطلة الصيفيّة. وأمهلهم أسبوعين قبل انقضاء أجل الترسيم لديه في الدروس المأجورة الفاصلة بين النجاح والرسوب فصل السيف بين الحقّ والباطل. واختار لهم فرضا عسيرا لاختبار مكتسباتهم حتّى خرجوا من قبضته متأخّرين، وجاؤوني باكين. قلت له مستفسرا ومتعجّبا: « ماذا فعلت بهم يا أخا العرب ؟ « فأجابني معتزّا ومبتسما: « إن هي إلاّ رجّة واجبة لتعجيل التقييد. وكفاني انتظارهم شوقا إلى نقودهم أربعة أشهر، من أواخر ماي إلى أواخر سبتمبر «. عقّبت على جوابه: « ألا تتّقي الله في الرسالة والأمانة ؟ « فأفحمني بنفقاته الصيفيّة محتسبا تراجع الدينار مقابل ارتفاع تكاليف الخلاعة ومواد البناء وغلاء الأسعار. رحم الله معلّمي، الأنموذج من ذلك الجيل المتشبّع بالقيم الأخلاقيّة والروح الوطنيّة. كان – ولم يكن وحده – يساعد الفقراء منّا على الأدوات المدرسيّة من مرتّبه البسيط، ويتفضّل علينا جميعا بساعة مجّانيّة لنحرز الشهادة الابتدائيّة. وكان عدلا بين ما تجب فيه الرأفة وبين ما تجب فيه الشدّة حتّى نجحنا في الدراسة وفي الحياة. ذاك وحده المخصوص بقول شوقي: قم للمعلّم وفّه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا أفلا يحقّ لي أن أفتخر بأنّه وأمثاله كانوا قدوتي في مهنتي الشريفة إلى أن تقاعدت منذ سنوات مرتاح الضمير؟ وهل لي في الدنيا شيء أمتع وأسعد من صدفة تجمعني بأحد تلامذتي فيذكّرني بلقطة خالدة ومعبّرة من حياتي، بعد أن نسيت الكثير ؟ أمّا هم فلم ينسوا شيئا من سيرتي وسنّتي، ومن عطفي وغضبي. والكمال لله . ذاك هو البناء الصحيح الذي تفانيت فيه طيلة سبع وثلاثين سنة مستعينا بالله على جهدي. بناء بمادّة العربيّة لغة وأدبا، لا بمواد البناء التي تباع وتشترى في السوق السوداء بالدينار الفاني. وذاك هو التعليم السليم من الفساد والذي عرفته ومارسته تلميذا فأستاذا، بأقلّ التكاليف ومن دون أن يحتاج أحد من تلامذتي إلى تلك الدروس الابتزازيّة ومن غير أن أدّخر من الواجب المرهق في القسم جهدا لها في المنزل.