لم أكن منذ صغري مغرما بكرة القدم غير أنّه كانت لي كرة ثمينة أجدّد شحنها بمنفاخ الدرّاجة الهوائية وأتعاطى ركلها على الجدار وسط الدار أو على باب المخزن المقابل . ولم يكن أقراني بالجوار يدعونني للمشاركة في أحد الفريقين لبراعة القدمين وإنّما لأنّي أملك كرة من الطراز الرفيع. فإذا قذفت على أحد السطوح وتعذّر استرجاعها أو قطّعها جار منزعج من ضجيجنا استبدلتها بأختها في الجودة والقيمة . وكنت في أكثر المقابلات بين الأحياء حكما محايدا، لا لاعبا متعاطفا ولا حارس مرمى يتقبّل الأهداف مخزيّا . وفي حصّة الرياضة طيلة دراستي الابتدائيّة كان الغالب على نشاطنا الحركات التسخينيّة والعدو أو القفز لأنّ المدرسة لا تملك أكثر من كرتين، إحداهما سبقنا إليها قسم آخر، والأخرى معطوبة كالحذاء المثقوب . أمّا أثناء دراستي الثانويّة فبموجب شهادة طبّية متجدّدة فضّلت التمتّع بالإعفاء من حصّة الرياضة على الركض بلا جدوى بين العماليق الذين يفوتونني طولا وعرضا نتيجة الرسوب لأكثر من سنتين . وكان أسهل نشاط لمدرّب التربية البدنيّة أن يقضي جلّ الحصص حكما بين نصفي القسم في مقابلات كرويّة إذا لم تجد عليه السماء بعفو مطريّ يريحه من الوقوف ويريحني من الحضور الفارغ من أيّ جدوى بجانب الملعب ويفيدني بما أطالع في قاعة المراجعة الفسيحة والمكتظّة نتيجة ثغرات الجداول وغيابات الأستاذات . فها أنا إلى اليوم أفضّل الكتاب والكتابة على الكرة والرياضة، ولا يعنيني فريق في كأس أو في بطولة . والحمد لله أن أعفاني من هذه البليّة حيث تجبّ مرارة الهزيمة فرحة الانتصار بما ينجرّ عنه توتّر وعنف أو مرض وانهيار . ولكنّ الأمر سرعان ما يرتقي إلى أعلى درجات الأهمّية والخطورة إذا تعلّق براية الوطن في لقاءات دوليّة . عندئذ لا يعنيني الفريق من يكون وإنّما يعنيني أن يشرّف تونس . لذلك تراني في زحمة المقهى متفاعلا مع كلّ حركة وكلّ تصفيرة بعينيّ ورجليّ ويديّ وبقلبي وعقلي وبصوتي الصارخ مع من حولي في انسجام وتوافق استنكارا أو تعليقا دون أن أعرف أحدا وكأنّي معهم عضو من جسد واحد . وما أمتع أن يندمج الفرد في الجماعة أحيانا فيخفّف عن نفسه من تضخّم الأنا ! فحينا أتصوّر وضعيّة اللاّعب، وحينا آخر أقدّر مسؤوليّة الممرّن وهو متوتّر وأحسب الدقائق لتمرّ بسرعة إن كنّا منتصرين أو لتتباطأ إن كنّا منهزمين مؤمّلا تحسّن النتيجة . وفي أغلب الأحيان لم يكن الوقت رحيما ولم يكن الحكم عادلا وكأنّه « مشترى « بالرشوة لمساعدة الخصوم علينا بما يثير الضغائن والأحقاد بين الشعوب العربيّة ويحيي ما كان من العداوة والحروب القبليّة، وأشهرها في التاريخ حرب داحس والغبراء التي دامت أربعين سنة من جاهليّتنا الجهلاء التي لم يقض دين التوحيد على جميع رواسبها . وإذا كان الظلم مؤذنا بخراب العمران – كما قال ابن خلدون وغيره – فماذا يفعل القهر إذا لم يلهب الملاعب ويكسّر المدارج ثأرا للحقّ المطعون والعرق المهدور والدم المسفوك ؟ بهذه الرياضة، الملخّصة في كرة القدم، تتأرجح الوطنيّة بين الدفاع والهجوم، ويحتدّ الصراع بين الإخوة الأعداء . وبتلك الكرة الفاسدة – قياسا على السياسة الفاسدة بعبث الأحزاب وسياحة النوّاب – تنقسم المدينة بين الأبواب، والبلاد بين الجهات، والوطن بين الأقطار – ما بين منتصر ومنهزم – بما يضمن للعدوّ المحتلّ النّصر الدائم . أفلا يجوز لي القول : « إنّ معضلتنا السياسيّة في كرتنا العربيّة « ؟ أفلا يحقّ لي، بعد مظلمة الحكم الجزائري في مهزلة نهائي رابطة أبطال إفريقيا بين الترجّي والأهلي الغشّاش، الدعاء : « عاشت تونس « لأنّها تونسيّة، لا أكثر ولا أقلّ، ولأنّي تونسيّ وكفى ومهما تقلّبت الأنواء. ومهما كانت النتيجة لم يعد يعنيني صديق أو شقيق، ولم أعد أبالي بغرب أو بشرق سواء أكان الأدنى أو الأقصى. والحمد لله والشكر له على ما أخذ وما أعطى . والحمد لله مرّة أخرى على فوزنا في الإيّاب عن جدارة، فرفعنا الكأس والراية.