كلّما أوى إلى فراشه في غرفته الكئيبة بسطح العمارة، بعد يوم شاق من العمل، كان يفتح كتابا من الكتب التي يقتنيها من سوق الكتب القديمة، ثم يعمد إلى منبّه ذهبي صغير جلبه من بين ما خفّ حمله من متاع يوم الهروب من الوطن، فيضبط ساعة النهوض التي يعلنها صوت صياح ديك يذكّره ببيته في ريف حلب، ثم يستعين على النوم بالمطالعة... أمّا في الليالي الأخيرة، فقد اكتشف ألهية جديدة كلما نحّى الكتاب جانبا وحدّق في الجدار المقابل لسريره، كانت الأمطار الأخيرة قد فعلت فيه فعلها وخطّت الرطوبة عليه رسوما يكاد يتبيّنها بوضوح مع قليل من الخيال لم يكن ينقصه0 فقد عاش ليالي رأى فيها مجموعة من الهنود الحمر يقابلها فيلق من العساكر المدجّجة بالسّلاح تشبه تلك التي نراها في أفلام حرب النجوم، ثم رأى مجوعة من النسور تهاجم ما يشبه الطائرات الحربية فوق غابة من الزياتين... لكن الليلة، لم ير من تلك المشاهد شيئا، بل كانت جل البقع الدكناء تتجمع لتحتل وسط الحائط طولا، بينما أخذت الرسوم الأخرى أشكالا آدمية وحيوانية أسفل الحائط0وبالتأمل في البقع الدكناء المتجمعة، تبين له شكل ديناصور يقف على قائمتين ضخمتين فاتحا شدقين ذات أنياب متفاوتة الطول ينفث منهما حمما ودخانا وعلى ظهره أشواك ضخمة تشبه زعانف ظهر القرش. فتح كتابا جعله حائلا بينه وبين الرّسم المزعج فلم يجده ذلك نفعا بل أن الرسم ألحّ في جلب انتباهه... وضع الكتاب جانبا وأمسك المنبه الذهبي يضبط توقيت صياح ديكه الحلبي، أطفأ النور واندسّ تحت الغطاء يحلم بغد أفضل، فقد وعده صديقه وابن بلده جسّار بأن يتدبّر له محلّ إقامة أفضل إنه مدين لصديقه جسار وأخته نجلاء باحتضانه منذ الأيام الأولى للجوئه لهذا البلد، فجسّار هو الذي تدبّر له العمل بمحل الأكلات الخفيفة أسفل العمارة يفتحه فجرا ويقضي قرابة الساعتين في غسل الخضروات وقصّها وإحضار البهارات حتى يأتي صاحب المحل وباقي العمال، لينطلق إثر ذلك إلى المعهد الحرّ أين تشتغل نجلاء أخت جسّار في التدريس ليقوم هناك بأعمال البستنة والصيانة وفي أخر النهار يعود إلى المطعم أسفل العمارة ليقوم بتنظيف الأواني والبلاط وأخذ التعليمات الجديدة ليوم الغد0 وكانت هذه الأفكار كفيلة بأن تحثّه علي النوم، فبانتظاره عمل يوم شاق آخر، ولكن رسم الديناصور عاود خياله، أزاح الغطاء ببطء ورآه فقد كان ضوء القمر الداخل من النافذة الخالية من الستائر قد ملأ كامل الحائط الذي أصبح يماهي شاشة سينما يستشيط غضبا يجب أن يفعل شيئا يحجب به هذا المنظر بحث بين امتعته القليلة عن بعض الجرائد يلصقها على النافذة فلم يجد... تذكر القبو في أسفل العمارة يضع فيه صاحبها مستلزمات الصيانة من طلاء وأدوات البناء0نزل السلم وجلب من القبو ما يلزمه مما طالته يداه، وأتى على الحائط حتى ألفاه أبيض ناصعا، ثم نظر حوله فعنّ له أن يفعل بباقي الجدران ما فعله بالأوّل0 ولمّا أتمّ عمله ظهرت له الغرفة وكأنها ازدادت اتساعا... وكان صديقه جسّار أوّل من زاره وانبهر بما فعله بالغرفة الكئيبة ووافقه الرّأي بأنها ازدادت فعلا اتساعا 0،والغرفة التي تتسع لشخص كفيلة بضمّ شخصين فاغتنم هو الفرصة وفاتح صديقه بأمر خطبته لأخته نجلاء نجلاء، تلك المرأة ذات الثلاثين ربيعا والتي توفي زوجها في الحرب الدائرة هناك تاركا لها صبيا في العاشرة لجأت به إلى تونس صحبة أخيها... كان ينتظر من صديقه ترددا أو حتى تأجيل الموضوع، ولكن جسّار رحّب بالفكرة، وحدد موعد الزفاف0 ولم يكن الأمر يتطلّب كثيرا من التحضيرات، فقد قام بتنظيف السّطح أمام الغرفة وحولها ووعده صاحب العمارة بتوفير الكراسي والطاولات وتخت العروس وفرح للخبر كل سكان العمارة وأحظروا معهم ما استطاعوا جلبه من الهدايا ومختلف الأطعمة والفاكهة وغنّى الجميع ورقصوا ولم تأت العروس... ولكنه كان في أوج سعادته ... و زاد الجميع في الرقص والغناء والشراب ولم تأت العروس... غير أنه يبدو أن لا أحد يبالي لذلك بل كان الكل منهمكا في الرقص والغناء حول التخت الخالي... وكانت ليلة ليلاء لم يقطعها سوى صوت المؤذن لصلاة الفجر آت من المسجد القريب تلاه صوت صياح الديك المنبعث من المنبه الحلبي. و«لمّا فتح عينيه، كان الديناصور لا يزال هناك».