جاءت حركة المعتزلة مؤسسة على اساس آخر، جاءت مؤسسة على اساس نظري جدلي غير متصل بالعصبيات والمقالات والمواقف التي تشعبت من مسالة الخلافة. ولكنهم ارادوا ان ينظروا نظرا منطقيا جدليا الى المشاكل التي وضعها الخوارج، والتي وضعها القدرية بصورة خاصة فحاولوا حلا لهذه المشاكل القدرية واتوا في حلهم بمقالات ليست اقل ابتداعا من المقالات التي تكونت بها المشكلتان اللتان ارادوا حلهما. فقالوا باثبات المنزلة بين منزلتي الكفر والايمان حلا لمشكلة التكفير بالمعصية. وقالوا بان العبد خالق لافعاله وان الله تعالى لا يخلق الا الصلاح وان ما يحدث في الكون من فساد ليس مخلوقا لله تعالى محاولين ان يتوصلوا بذلك الى حل مشكلة القدرية. فكان هذا ايجادا لفرقة جديدة واحداثا لقول لا يوافق عليه اهل السنة كما لا يوافق عليه الخوارج ولا القدرية. فاصبحت بذلك فرقة رابعة قائمة بذاتها. ولكن المسألة المهمة التي ترتبط بهذه المواقف انما هي مسألة تعديل الصحابة فهل نعتبر الصحابة كلهم لمجرد صحبتهم عدولا مؤتمنين على نقل الاخبار المتعلقة بالشريعة والتي هي ادلة للمجتهد يستنبط منها الاحكام الشرعية او نعتبرهم غير عدول لمجرد الصحبة ونفصل بينهم بحسب الاحوال التي فصل بمقتضاها الخوارج بين الصحابة تفصيلا انتهى الى تزكية قلة منهم والتي فصل بها الشيعة ايضا بين الصحابة تفصيلا انتهى الى ان لا حق في الاجتهاد ولا اعتماد في الرواية والنقل الا على ال البيت فقهائهم ورواتهم. ثم ننظر بعد ذلك الى مسألة وراء هذه وهي مسألة ما كان عليه السلف الصالح من امر اي ما كان عليه الصحابة والتابعون من مسالك ومن مقالات فيما يرجع الى المسائل التي حدث الاختلاف فيها فهل يعتبر الذي كان عليه الصحابة ملزما لمن بعدهم بحيث انه يتحتم اتباعهم فيما كانوا عليه ويمتنع الخروج عما كانوا عليه من امر او ان ذلك لا يلزم ؟. فالذين اعتبروا ان الصحابة عدول اطلقوا في تعديل الصحابة وقالوا ان كل صحابي بمجرد صحبته هو عدل امين على الشريعة، وان كل ما يأتي من الاخبار منقولا عنهم انما يبحث في الاسانيد التي انتهت بها تلك الاخبار اليهم، ولا يبحث في احوال الصحابة بذاتهم لاننا اذا انتهينا بالخبر الى صحابي فنقل الصحابي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر امرا مفروغا من ثبوته. ثم ان ما عليه الصحابة والتابعون بعدهم من اعمال متسلسلة مطردة يسيرون عليها ويعتبرونها قواما للملة الاسلامية، وينقلها خلفهم عن سلفهم انما تعتبر براهين على ان ذلك الامر الذي كانوا عليه هو امر الاسلام، في حال ان الخوارج من جهة والشيعة من جهة اخرى لا يرون هذا المعنى. ويرون ان في الصحابة تفصيلا وان فيما عليه من الامر تفصيلا ايضا. فعلى هاتين القضيتين قام اساس السنة. فالذين اعتبروا اصلين تعديل الصحابة. والتزام الامر الذي كان متبعا فيما بينهم. وهو ما عبر عنه السنة بالمعنى الاعم هم الذين اعتبروا اهل السنة واعتبر هذان الاصلان اللذان قال بهما اهل السنة مبدأ للفقه الذي تفرع عند اهل السنة ومحورا يدور عليه امر الفقه بين المذاهب السنية. ثم اذا اعتبرنا ان خلاف المعتزلة مع اهل السنة هو خلاف لا شأن له في المسائل الفقهية الفرعية، لانه خلاف قصر على المسائل الاعتقادية النظرية ضرورة ان المعتزلة بانفسهم قد توزعوا على ما لا يخفى بين المذاهب السنية كانوا مخالفين في العقائد لايمتها فلم يكن هناك مذهب اعتزالي في الفروع الفقهية، وانما كان المعتزلة موزعين بين المذاهب فكان منهم شافعية مثل القاضي الحسين وكان منهم حنفية مثل جارالله محمود الزمخشري. وعلى ذلك فان مرجع الخلاف بين اهل السنة وغيرهم فيما يرجع الى استنباط الاحكام الفقهية انما يعتمد على هذين الاصلين وهما تعديل الصحابة اولا والتزام السنة التي تسلسلت من العهد النبوي الى عهد التابعين عملا مطردا لا اثارا منقولة. وعلى هذا الاساس تكونت المذاهب الفقهية التي ترجع الى مبدأ السنة وهي المذاهب التي تكونت في البيئات الفقهية الاولى التي عرفت بالامصار. وكان تكونها على اساس الاجتهاد المتسلسل من العهد النبوي الطاهر الى العهد الصحابي الى العهد التابعي، فان تفرق الصحابة رضي الله عنهم بين الامصار التي تفرقوا بينها انما كان تفرقا منهم بعلم وبفقه. فكل واحد من الصحابة اقام في مصر من الامصار في المدينة او في مكة او في العراق او في الشام او في مصر انما اقام بعلم فيه ما لا يوجد عند الذين اقاموا في الامصار الاخرى، وبفقه منه في استنباط الاحكام من ادلتها التي هي العلم لا يتفق مع الفقه الذي عند غيره من فقهاء الصحابة الذين استقروا في الامصار الاخرى فتكون بتعدد الامصار تعدد الفقه وتشتت العلم. يتبع