علّمنا التاريخ أن الثورات الشعبية تنطلق من أهداف ومطالب واضحة وبقيادة متمرّسة وحكيمة أمضت عقودا في النضال الجدي والمضني لتأطير الجماهير وإقناعها حتى تنخرط وتتحمّس للدفاع عن هذه الأهداف والغايات وهو ما تم في روسيا والصين والهند وفرنسا والهند الصينية وتونس ومصر والجزائر وجنوب إفريقيا... وقد اعتمدت بعض الثورات إيديولوجيات مختلفة لإقناع الأنصار كما هو الشأن بالنسبة للأنظمة الشيوعية أو الاشتراكية أو التي خاضت معارك الميز العنصري بجنوب إفريقيا أو بالولايات المتحدةالأمريكية أو التي قاومت المستعمر في عديد بلدان العالم ومنها تونس وللتذكير فقط لقد كان الاستعمار الفرنسي الذي ابتليت به تونس استيطانيا يعمل على سلب الأرض واستغلال الثروات ومسخ الهوية وهو ما مارسه مع أغلب الدول التي استعمرها فأفقدها كيانها وهويتها. وقامت حركات التحرّر الوطنية لدحر الأجنبي من ترابها والبحث عن الحرية والكرامة الحقيقية بقيادة زعماء خلّدهم التاريخ ومنهم (غاندي) و(بورقيبة) و(مانديلا) و(عبد الناصر) و(محمد الخامس)... وتحمّل هؤلاء عذاب السجون والمنافي والتعذيب والحرمان وما ضعفوا وما استكانوا وما بدّلوا تبديال. ولم يلجؤوا للدول الأجنبية طالبين الحماية واللجوء السياسي مقبال مهاجمة أنظمة بلدانهم وزعمائها للحصول على الامتيازات والدولارات أو الأوروات وهذا العمل يدخل في نطاق الخيانة الكبرى. ومع تطوّر الوسائل التكنولوجية الحديثة وخاصة منها بالاتصال والتواصل الاجتماعي والانترنات وجد هؤلاء «الثوريون» الجدد وسيلة أو لعبة جديدة لتحريك مشاعر الناس وخداعهم وتأليبهم على أنظمتهم بشعارات واهية ووعود كاذبة وذلك بدعم وتأطير قوى أجنبية أعدّت مخططات جهنمية للإطاحة بالأنظمة الوطنية وخاصة منها العربية والإسلامية ليقيدهم بتأثير الدعاوي الدينية من ناحية وبهدف الاستحواذ على ثروات هذه البلدان من ناحية أخرى ووسيلتهم في ذلك زعزعة أمن واستقرار هذه البلدان واستغلالها سياسيا واقتصاديا دون اللجوء إلى الحروب الكلاسيكية والمواجهات المباشرة بل حرب باردة بتكنولوجيات حديثة. وبما أننا نعشق التقليد الأعمى ارتمت هذه الشعوب في أحضان هذه المخططات وانطلت عليها حيلة ما يسمّى بالربيع العربي وخرج المختفون من جحورهم وهبّوا من كل أصقاع الدنيا وانقضّوا على أرض الوطن رافعين شعارات برّاقة وكذّابة واعدين الناس والشباب خاصة بالخير العميم والمستقبل الزاهر. وسريعا ما استفاق الناس على الحقائق المرّة والواقع المرير بعد توافد دعاة كفروا الناس ومارسوا العنف اللفظي والمادي واحتلوا المساجد والمنابر وتنكّروا للإرث والتراث وعاثوا في الأرض فسادا وانبرى دعاة «الديمقراطية» والحرية والكرامة يقوّضون أسس الدولة ويهدمون المؤسسات ويبعثون هيئات ومجالس على المقاس حسب أهوائهم وحاجياتهم وكتفوا النظام السياسي والانتخابي بطريقة تخدم مصالحهم وأطماعهم. ودون الدخول في التفاصيل والأرقام والمقارنات والتحليلات تيقّن أغلب المواطنين بأن البلاد كانت ضحية لمؤامرة كبرى أتت على الأخضر واليابس. وانقلب حال البلاد من شأن إلى شأن وأصبحت الإنجازات التي كانت مفخرة تونس قبل 2011 في مهب الريح فالاستقرار والأمن الذي كانت تنعم به البلاد والذي كان يشجّع على الاستثمار والطمأنينة والسياحة والإنتاج أصبح مفقودا بعدما عمّ الإرهاب والتهريب والذي لم يسلم منه لا الجيش ولا الأمن الوطني رغم المجهود المبذول. أما التعليم الذي كان من أهم إصلاحات دولة الاستقلال بفضل ما أتنجه من كفاءات وإطارات في مختلف الاختصاصات أصبح اليوم حل تجاذبات وصراعات بين النقابات والوزارة من ناحية وارتفاع تكاليف الدراسة من دروس خصوصية والتعليم الخاص من جهة أخرى فتدنى مستواه وأرهق التلاميذ والأولياء. ولم ينج ميدان الصحة وخاصة العمومية منها التي كانت مجانية تقريبا ومتميزة انقلب فيها الوضع إلى الفوضى والفساد الاستغلال والعنف حتى هجرها الأطباء والمختصين. أما عن حال الإنتاج والإنتاجية وقيمة العمل فلا تسأل وانهارت المؤسسات الوطنية الكبرى التي كانت أقطابا تنموية أنعشت الاقتصاد وشغلت الناس ولا تسأل عن حال شركة فسفاط قفصة والمركّب الكيميائي بقابس والفولاذ بمنزل بورقيبة والبترول والغاز لقد أفلس أغلبها أو كاد. حتى الإنتاج الفلاحي والذي كان يتميز بفائض الإنتاج كالحليب والبيض واللحوم.. أصبحت تشكو الندرة وتستورد من الخارج. وفي خضمّ هذا وغيره أقبل الشباب وحتى الكهول على الإدمان والعنف والإجرام نتيجة الضغوطات وانسداد الآفاق وأصبحت «الخرقة» والانتحار خاصة حرقا عادية وهي ظاهرة خطيرة ومحرمة إنسانيا وقانونيا ودينيا والغريب فإن السلطة لم تتخذ الإجراءات الردعية للحد من محاولات الانتحارت وكذلك رجال الدين يجب أن يتصدّدوا لذلك ويُحرمونه... وحتى لا أطيل في مثل هذه المشاهد والوقائعالتي أصبحت مألوفة في المجتمع التونسي والذي توسّعت فيه الفوارق لتظهر طبقة غنية غناء فاحشا نتيجة الفساد والسمسرة والتعويضات والامتيازات وطبقة ثانية ضعيفة لم تعد قادرة حتى على الضروريات الدنيا للحياة العادية. هذا هو الواقع الذي يتباهى به المدافعون والمستفيدون من الثورة ومن فترة الانتقال الديمقراطي التي طالت وأنهكت البلاد والعباد متعللين بحصول الشعب على حرية التعبير، وهل تُعوّض حرية التعبير والتظاهر والاحتجاج الشغل والخبز اليومي للمواطن وهل ستوفر له العيش الكريم في ظلّ الفوضى وانخرام الأمن والاقتصاد وتراجع سيادة الدولة وهيبتها. ليعترف هولاء ولو لمرة واحدة أن ثورة 18 جانفي 1952 التي خاضها الشعب التونسي مكّنته فيما بعد من تحقيق الاستقلال والحرية الحقيقية ومن بناء دولة عصرية والقيام بإصلاحات وإنجازات تاريخية أتى عليها من يدّعون القيام بثورة في 14 جانفي 2011 فدمّروها وأخمدوا كل أمل في الحياة الكريمة والمستقبل الأفضل. وفي الختام أقول: شهر بأيّة حال وسرّ عدت يا شهرُ هل لي في مقدمك رجاء وأمل وخير