بهداية إلهيّة وروح وطنيّة هل ينتهز أصحاب الكراسي والمراسم فرصة رأس العام لمحاسبة أنفسهم فيما أوصلوا منتخبيهم إليه من تدهور قدراتهم وتبخّر آمالهم أم يحتفلون به عيدا للتمكّن من السلطة ومناسبة لاحتساب المكاسب ؟ أنا لم أعد أنتظر منهم خيرا مهما تلوّنوا وتأنّقوا مظهرا وكلاما. والعام الجديد برأسه وذنبه لا يعنيني في شيء لأنّي لا أحتفل به أصلا إلاّ أن أردّ التحيّة والتهنئة. بل الأحلام نفسها قد عبثت بها الكوابيس حتّى صرت أفضّل الأرق الموجع على المنام المزعج. لكنّي أحاسب نفسي، من دون مكاسب عينيّة، أحاسبها على ما فعلت بي إذا كانت لوّامة غرّارة أو عزيزة أبيّة أو راضية مرضيّة . وأحاسبها في أوقات الوحدة والضعف، خارج الروزنامة ومن غير مناسبة . وحسابي لنفسي امتحان عسير، وإدراك المعدّل فيه غير يسير. فالغالب على النتيجة الشعور بالخطإ والتقصير . فكيف يكون جوابي يوم السؤال عن حياتي في ما أهدرتها وعن حواسي بما شغلتها ؟ هل يخفّف عنّي العقاب إذا تعلّلت بهذا القلم وذاك الكتاب ؟ كلّ ما استطعت إنجازه لبلدتي الطيّبة، رغم العراقيل، قليل ممّا كان ينبغي إنجازه حقّا لها عليّ مع آخرين. وذلك القليل قد أكلته البقرات السبع العجاف . وهو كغيره سقط في الماء كما يقول المجرّبون لرؤية جهودهم تنهار وآمالهم تجهض أمام غطرسة الردّة وفساد الرأي وتأزّم الذوق واسوداد القلب. وجميع ما كتبت لا معنى له ما لم يغيّر عقليّة أو ينهض بواقع والقوم غير مستعدّين لتغيير ما بأنفسهم، أنفسهم التي جبلها الجهل على الأنانيّة، والصلف على الانغلاق . وجملة الكتب التي لم أنشرها تؤرّق ليلي وتنغّص نهاري. إذ لا أحد بعدي يحفظ هذه الأمانة، زيادة على مكتبة العمر الزاخرة . فكرة الإهداء تراودني، والمهدى إليه يحيّرني أيكون من أهل البلاد أم يكون من أهل الكتاب؟ كلّ ما عملت لا يمثّل شيئا أمام ما لم أعمل وبالنسبة إلى ما يجب أن أعمل . فهل أردّ على السؤال بالاعتذار والاستغفار معترفا بطاعة نفسي في ما زيّنت لي من إضاعة الوقت نوما وكسلا وتهاونا ولعبا أم أردّ على السؤال بالجدال مستنكرا قصر العمر الذي قلّ أن بلغ عشر تعمير نوح؟ وكيف إذا ناوشتني الملائكة فاضحة جهلي ساخرة من إنسانيّتي المنقوصة؟ هل أجيب بأنّ ضيق الوقت حال دون قراءة الكتب وأنّ ضيق ذات اليد منع من السفر في ملكوت الخالق شرقا وغربا فلم أعرف أقواما في الهند والصين والعالم الجديد قبل القيامة الهادمة لمآثر الإنسان خليفة الله في كلّ مكان ؟ أرجو وأتمنّى – والتمنّي مستحيل إلاّ على الله – أن تكون القيامة سلميّة بلا عنف ولا دمار شامل ليبقى هذا الكوكب الجميل مزارا كالمتحف لبني آدم إذا سئموا طول الخلود في الجنّة واشتاقت أنفسهم إلى سوالف إنجازاتهم الدنيويّة بأفضاله سبحانه عليهم مذ قرّر تشريفهم بخلافته في الأرض، في حفظ السماوات واختلاف ضوء الشمس ونور القمر والأنجم الوامضات . لكلّ هذا يغمرني الحزن الشديد في مثل هذه المناسبات . فتمتّعوا وامرحوا يا أولي المصالح والامتيازات.