ثلاثة أشهر من التفاوض بين وزارة التربية والجامعة التونسية للتعليم الثانوي (نقابة مركزية) وأربع عشرة جلسة تفاوض وسيل جارف من البيانات والبيانات المضادة...أفضت كلها إلى شل أكثر من ٪80 من مؤسسات التعليم الثانوي والإعدادي التي يؤمها 900 ألف تلميذ وجدوا أنفسهم خارج المدارس محرومين من الحق الذي يضمنه لهم الدستور التونسي. وهو الحق في التعليم المجاني والمعرفة. سوف لن نتوقف عند جدل المطالب النقابية التي تفاوض من أجلها الجامعة العامة للتعليم الثانوي نيابة عن عشرات الآلاف من المدرسين...وشرعية هذه المطالب من عدمها. ذلك أمر قد تتم تسويته في قادم الأيام. فالأهم عندنا محاولة بلورة قراءة تحليلية لانعكاسات هذا الوضع ورمزياته الذي تجمع كل الأطراف على وصفه-بالكارثي-والذي أصبح فيه التلاميذ وأولياؤهم رهائن بين الحكومة والنقابة. لقد أصبحت الأزمة الراهنة للمؤسسات التربوية قضية رأي عام نوقشت تحت قبة البرلمان بعد أن شغلت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ناهيك عن الشارع التونسي وكل العائلات التونسية ذات العلاقة المباشرة بهذه الأزمة. مصادر عليمة رجحت أن يكون ما يجري ليس سوى واجهة لنقل الملف السياسي من الأطراف الفاعلة في البلاد إلى المؤسسة التربوية، التي لم يسبق منذ الاستقلال (1956) أن شهدت ما تشهده حاليا. في هذا السياق اتهم وزير التربية حاتم بن سالم الجبهة الشعبية (قطب حزبي يساري معارض) بأنها تقف وراء الأزمة. وعلى الرغم مما يأمله الرأي العام من انفراج للوضع فإن ما يدور في الكواليس يذهب إلى ترجيح مزيد تعقيد الأوضاع مع تلويح نقابة التعليم الأساسي هي الأخرى بالتحرك ومواصلة نقابة الثانوي التمسك بمطالبها ودعوتها إلى يوم غضب اليوم السادس من فيفري(ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد). ملاحظون وصفوا هذا الوضع «بالتراجيديا المأساوية». حيث لا نجاة لأحد ولا أفق مفتوح للخروج من هذا النفق المظلم: 900 ألف تلميذ هم في حالة عطالة كلية ومدرسية منذ حوالي ثلاثة أشهر عندما أعلنت الجامعة العامة للتعليم الثانوي مقاطعتها لإجراء الامتحانات. ولم يبق من السنة الدراسية من زمن فعلي للتدريس سوى شهرين ونصف... فهل نحن فعلا أمام سنة بيضاء يصفها الأولياء بأنها ستكون سنة سوداء ستتحمل مسؤوليتها كل الأطراف نقابة وحكومة وعقلاء وتلاميذ. المدرسة التونسية تعيش اليوم منعرجا خطيرًا. ولا يمكن لأحد أن يتصور كلفة استمرار هذا الوضع، من نتائجه المباشرة إدخال البلاد في أزمة خانقة لا حل لها. لقد انتبه التونسيون وهم يتابعون خروج آلاف التلاميذ إلى الشارع ثائرين، محتجين خارجين عن صمتهم معبرين عن موقفهم من صراع نقابي سياسوي هم ضحاياه.وكان المؤمل أن تكون مدارسهم خطا أحمر، بعيدا عن كل صراع مهما كانت مرجعياته، وأسبابه. لقد انتفض هؤلاء التلاميذ وعبروا من خلال الاحتجاجات والمسيرات عن غضبهم مدافعين عن حقهم في المعرفة والعلم وسيلتهم في ذلك الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكنهم التزموا-على عكس الكبار-الممارسات السلمية الديمقراطية باعتبارهم مواطنين، رافضين التعامل معهم على أساس أنهم موضوع المشاجرات والتجاذبات والتفاوض والضغط...إنهم «ذوات قادرة على رد الفعل والضغط والتعبير» على حد توصيف الأكاديمية الدكتورة آمال القرامي...فهؤلاء التلاميذ يشكلون جيلا نشأ في مسارات التحول الديمقراطي. وعاش على وقع الاحتجاجات والمسيرات السلمية والاعتصام. وواكب أيام الغضب. وعايش تشكل الحركات الاحتجاجية وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي وإدراك سلطة الخطاب الحقوقي واستراتيجيات التفاوض فراح يتحدث عن مراحل الحوار ويهدد بالتصعيد... لقد لفتت احتجاجات التلاميذ إلى قوة أخرى بدأت في التشكل. إنها تلك القوة «السائلة»، التي يقابلها مصطلح الدولة «الصلبة»، والمصطلحان من أدبيات عالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومان (19252017) مصطلحان يؤشران لتحولات نوعية تشهدها تونس منذ الثورة تحولات يعود بعضها إلى عوامل موضوعية ذات علاقة بعالم «ما بعد الحداثة» ويعود بعضها الآخر إلى سياقات «الدولة الصلبة» كناية عما يكتسبه ما كان قائما من عمق وتكلس واستعصاء عن التغيير. أما «الثورة السائلة»، فهي ثورة التلاميذ في تونس والسترات الصفراء في فرنسا. وهي ثورة الهامش في وجه الدولة ومؤسساتها وما يتأسس باسم الديمقراطية والتزاماتها...وبكلام آخر فإن «الحداثة الصلبة» كما يرى «باومان» هي تعبير عن مرحلة سيادة العقل على كل شيء وتحكم الدولة في الاقتصاد والتعليم والتنمية وصولا إلى كبح جماح الأفراد لصالح المجتمع. أما ثورة التلاميذ هذه واحتجاجاتهم فهي من هذه الزاوية «حداثة سائلة» تعبر عن تفكك هيمنة «الدولة الصلبة» والنقابة المنمطة وسلطة المجتمع والأسرة ومشاعر الخوف والتردد... ففي ظل هذه السيولة يمكن أن يحدث أي شيء. لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان وفي الحالة التونسية الراهنة فإن كانت مسؤولية أزمة المؤسسة التعليمية ذات قطبين (الوزارة والنقابة) والمدرسين المنضوين تحتها، فإن هناك قوة أخرى بصدد التشكل (ثورة الأولياء والتلاميذ). ويمكن لهذه القوة أن تقلب موازين القوى باتجاه تغيير بنية العلاقات ونظام التمثلات. إنها قوة جيل صاعد ومتحفز قادر على تغيير المعادلات. ومع هذا وكما يقول «قرامشي» هل هناك معنى لديمومة النصر في ظل تاريخ مفتوح داخل صراع لا يعرف نهاية الجولة؟