كلّما عبّرت الشعوب عن تخوّفها من المواد السامّة ومن تلوّث المحيط ترسّخ التنكّر للأمراض البيئيّة. من ناحية أخرى تمكّن الخطاب «العلمي» من تهميش الأصوات المحذّرة من المخاطر البيئيّة واعتبر أصحابها من الرّافضين للتقدّم والحالمين بالرّجوع إلى عصر الشموع والفحم. كذلك يقع التأكيد على الإدمان على الكحول والتدخين وإهمال العوامل الأخرى علما بأنّ سرطانات الأنف والحلق والغدد اللّعابية (أو الرّضابية) ناتجة أساسا عن غبار اللّوح والإشعاعات الأيونية. نذكر أيضا أسبابا عديدة أخرى لبروز سرطان المجاري الهوائيّة-الهضميّة العليا من ذلك التعرّض للحامض السلفوري ومادّة formaldéhyde والنيكل والصبغات... وهذه المواد يتعرّض لها ملايين المواطنين. نعلم أنّ 40 بالمائة من سرطان المثانة مرتبط بالتدخين ولكن هناك أسباب أخرى لهذا المرض لعلّ أهمّها صناعات الملوّنات والكاوتش وبعض المعادن والحوامض المذيبة للمعادن (solvant). يحتلّ سرطان الرّئة المرتبة الأولى في قائم السرطانات المهنية، بما أنّه من الصّعب التمييز بينه وبين السرطان الناتج عن التدخين فإنّ الاعتراف بالسبب المهني عادة ما يلاقي صعوبات... منذ أكثر من خمس عقود تركّز الخطاب على التدخين وقد تراجع التدخين في العالم بين سنة 1953 وسنة 2001 من 72 بالمائة إلى 32 بالمائة في أوساط الرّجال. إذن فإنّه من المنطقي أن نسجّل تراجعا في نسبة الإصابة بسرطان الرّئة منذ الثمانينات. لكن بين سنة 1980 وسنة 2000 ارتفعت نسبة الإصابات. بماذا نفسّر ذلك وكيف نفسّر أيضا ارتفاع نسبة الإصابة بأنواع السرطان غير المرتبط بالتدخين مثل سرطان المخ والغدّة الدرقية واللمفوم أو الورم اللمفي والورم الملاني (Mélanome, thyroïde, lymphome, cancer du cerveau). قام باحثون مختصّون بدراسة توزيع خارطة الإصابة بسرطان الرّئة في أوروبا ولاحظوا أنّ النسب العالية قد سُجّلت في «الهلال المصنّع الممتدّ من غلاسغو إلى ميلانو». لماذا هذا الارتفاع في نسبة السرطان لدى الحيوانات والحال أنّها غير مدمنة على التدخين والكحول؟ اهتمّ الأستاذ Samuel Epstein من جامعة Illinois والمختصّ في الوقاية بهذه الظاهرة لدى الكلاب التي تعيش في منازل تخضع للمعالجة بالمواد الكيميائيّة ولاحظ نسبا عالية من الورم اللمفي Lymphomes لدى هذه الكلاب. حتّى الحيوانات «الوحشية» أو البرّيّة سواء الأرضيّة أو الطائرة تتعرّض إلى الاضطرابات الوراثيّة والتشوّهات الجنسيّة والسرطانات. منذ سنة 1969 لاحظ المعهد الوطني للسرطان بالولايات المتّحدة الأمريكيّة ارتفاعا في نسبة سرطان الكبد لدى الفئران المعرّضة لمادّة DD (يتبع)