ما دمنا نقرّ بأن الإبداع بصفة عامة هوالذي يحرّر الانسانية فقد يخترق الفن ما هومسكوت عنه وقد تقول الكتابة ما لا يجب أن يقال . والرسم بالكلمات تعبير ابداعي خالص يعكس حياة الإنسان بكل آلامه وأحزانه وآماله من عمق واقعه المعاش. هذا الرسم بالكلمات ينقسم الى نوعين هامين في الأدب .أدب جاد جذوره الفكرية عميقة وتدور في أطر وفلسفة دسمة. وآخر مغاير تماما يعرف بالأدب الساخر أوالهزلي وربما الفكاهي أيضا وهوأسلوب قد يدفع الكاتب القارئ على التفكير وفهم ما خلف السطور . و»غرفة الأكاذيب» هي مجموعة من النصوص القصصية للكاتبة هند الزيادي وهي صادرة عن دار زينب للنشر في بداية سنة 2019 وتحتوي على تسعة عشر نصا سرديا اختارت لها عناوين لها دلالات مثيرة . انطلاقا من (الجنرال يخرج من متاهته) مرورا ب (نادي المنتحرين التقدميين) و(أختنا عبد الحميد ) وصولا الى (ساعي بريد قرعة العطش) مع العديد من العناوين التي تخفي الكثير من الحكايات . وقد اجتهدت الكاتبة من خلالها في تفكيك الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي للأفراد وللمجتمع دون أن تنسى أن تضع الإصبع فوق الجرح. وتبين مكمن الضعف والخلل بشكل وأسلوب غير مباشرفيه من السخرية الشيء الكثير . غايتها في ذلك أن تحظى هذه الحكايات أوبالأحرى هذه الأكاذيب بالإهتمام والمعالجة . في الكتاب نقرأ مجموعة من الحكايات المتنوعة تختزل حياة شخصيات مختلفة ضاقوا باصطفافهم ضمن جماعة ترفضهم فاختاروا حياة جديدة. من هذه الشخصيات جنرال يخرج من متاهته والحقيقة يخرج من الكذبة التي ظل يعيشها قبل أن يحال على المعاش وقد أصبح بعد صولاته وجولاته أضحوكة أمام أطفال الحي وهم يلعبون الكرة في خربة كانت تسمى دار الجنرال : (...لم يكونوا يهتمون بشيء .جل اهتمامهم بالكرة والأهداف وصديقهم الشبح ساكن الخربة الذي يضحكهم جدا بلعابه السائل من فمه وشتائمه التي يطلقها عليهم فيفرون من أمامه ضاحكين وهويلوح لهم بإطار صورة فارغ محطم الأضلاع ويهددهم بإطلاق النار عليهم من عود قصب يمسكه بيده المرتعشة...) صفحة 11 . وفي حكاية أخرى مجموعة من شباب اليسار فكروا في تأسيس نادي المنتحرين. وكان لقاؤهم التأسيسي في حانة تسمى (بار أوسو) وهي حانة شعبية قديمة جدا قريبة من البحر بمدينة سوسة . ولأن الموت لم يعد بالأمر الغريب في هذا الزمن الغريب فقد انتحر عدد كبير من أعضاء هذا النادي دون أن يلتفت اليهم أحد أما البقية فقد نسوا أن الموت صار شيئا مسليا بفضل نشرات الأخبار . وفي حكاية ثالثة مجموعة آنسات عوانس تجمعهن رابطة مشتركة هي عضويتهن في جمعية خيرية ينشطن فيها ويخدمن الناس من خلالها بفضل شخص خيّر ليس فيه ما يدل على المذكر الا شكله الخارجي الأمر الذي جعل الجميع يدعونه أختنا عبد الحميد وهوشخصية طريفة وكل العوانس عشن معه قصة حب في مكتبه في الخفاء وهويتفنن في أن يشعر كل واحدة أنها الملكة المبجلة على عرش قلبه وأنها الوحيدة التي يمكن أن تزيح عنه البؤس الذي يعيشه مع زوجته في المنزل . وفي الحكاية أشياء كثيرة تحدث في هذا الزمن العجيب . أما ساعي بريد قرعة العطش فهي حكاية ختمت بها الكاتبة « غرفة الأكاذيب « وهي تفضح ما آلت اليه الأوضاع في هذا البلد الذي حولته الثورة الى حطام . رجل يستحوذ على جرايات المتقاعدين ليحرق الى ايطاليا بعد أن أعطوه توكيلا ليتجنبوا عناء الذهاب الى مكتب البريد البعيد عن مقر سكناهم. وفي المجموعة نتعرف أيضا على الشاعر والكاتب وصاحب الشهادة المعطّل عن العمل والمهاجر غير الشرعي والعجوز المصابة بالزهايمر. كل هذه القصص جاءت بأسلوب ساخر وكأن الكاتبة تعمدت ذلك وأمسكت في يدها مشرطاً لا قلما. فكان سردها دقيقاً في عرض الجزئيات . وقد تسنى لها أن تنتقل من قصة لقصة بخفة وسهولة وبسخرية مكشوفة . ولعلها توّجست بمشرطها أين يكون مصدر الألم. وقد يظن بعض النقاد للأسف أن الكتابة الساخرة هي مجرّد التهريج بتوافه الأمور. وقد تكون تجريحا بكرامة الآخرين . والحقيقة أن الكتابة الساخرة ليست في متناول الجميع . ولا يُجيد كتابتها إلا من كان فعلاً ذوروح ساخرة حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه. وهي أرفع قدراً من التجريح والتهريج، لأن السخرية الواعية المسؤولة هي أداة من أدوات التوجيه والنقد. وهذا ما جاء في هذه المجموعة للكاتبة هند الزيادي . مستغلة في ذلك تراث الحكي بجميع روافده الأسطورية والدينية والشعبية . و»غرفة الأكاذيب» تجربة سردية جديدة ومختلفة عما سبق وقدمته الكاتبة من نصوص . ولعل حضورها في المشهد الأدبي في هذا الزمن بالذات يعبر عن حالة تمرد. تمرد على الواقع واحتجاج على السائد ورفض للأفكار التقليدية في المجتمع والسياسة . والكاتبة هند الزيادي في هذه النصوص أفلحت في الأخذ باللحظة الحزينة المؤلمة وأعادت إنتاجها بشكل وصورة ضاحكة. وذلك بعد أن رصدت متناقضات الواقع وقدمتها صوراً مشهدية ساخرة. وهي بذلك ساهمت في تحويل المصائب والأوجاع الى مادة للسخرية والضحك . وعبرت عن تجربة مريرة مرت بها وتعترضنا جميعا دون أن نهتم بها . وفي الختام لا بد أن أشير بأن الكتابة الساخرة الواعية تعتبر من أجمل أنواع الكتابات وأصعبها بلا شك. والكاتبة كشفت لنا عن حقيقة نتحاشاها وقد تسخر منا في آن.