استمعنا هذه الأيام الى مقولات متحاملة على بورقيبة وعلى مسيرته الوطنية الكبيرة.وبعضها لم يكتف بهذا، فعبّر عما بداخله من قلّة أدب وإنعدام تربية كدليل على أنّ أزمتنا السياسية إنما هي بالأساس اخلاقية!.. إن التقييم الموضوعي النزيه للشخصيات التاريخية يستوجب الأخذ بالحسنات والسيئات للموازنة بينها،فلا يخلو إنسان من نواقص..ومن ناحية ثانية التقييم والحكم لا يكون على خفايا الأنفس أو النوايا وإنما على الظاهر والإنجازات،فالله وحده يعلم السرائر{إنّ ربّكَ هوَ أعلمُ بمن ضَلَّ عنْ سبيلِهِ، وهوَ أعلمُ بالمهتدينَ}. بورقيبة من دون شك ارتكب عدة أخطاء، ومنها أخطاء فظيعة ترقى الى درجة الجريمة،ومن ذلك اغتياله لصالح بن يوسف،لا سيما اذا أخذنا بالإعتبار توقيت الإغتيال الذي تزامن مع احداث بنزرت!.. لقد كان أولى به إغتنام المناسبة لإحتواء الخلاف!!. وربما يبدو هذا الحل صعبا "مثاليّا" بإعتبارأن بن يوسف كان هو بدوره يخطط لنفس الشيء!..على كل حال في المحصّلة كلاهما سبب للبلاد تصدّعا مزمنًا ما إن يهدأ حتى يثورُ كالبركان..أليست البلاد الآن غارقة في حِمَمِه ؟! لم أكن يوما من "البرقيبيين"، بل كنت له معارضا.أما الذي دفعني الى مراجعة رأيي فإنما الذي نشاهده الآن من عبث..لقد صرنا نتندّم على ذلك الزعيم،وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ!فحين تنزلق أمة الى مستنقع الإنحطاط الأخلاقي والصراعات الفئوية والفردية بمزاعم المنافسة "الديمقراطية" يكون ظهور الزعيم الحق دليلا حقّا على أن الله مازال ينظر إليها بعين الرحمة ولم يلعنها{ لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعًا ما الّفتَ بين قلوبِهِم ولكنَّ اللّهَ ألّف بينهم..}..فبورقيبة الذي كنا ننعته بالدكتاتور، صرنا الآن نُجِلّه ونقدّر نفوره، خاصة مما يسمى"ديمقراطية" التي إتضح جليًّا أنها دمار وخراب وخداع للشعب.. أما من حيث الإنجازات ففضل بورقيبة على تونس لا ينكره إلا جحود لئيم.فالمستشفيات والمدارس والمطاعم والمبيتات المجانية والمنحة الطالبية التي كانت بحجم راتب معلّم، والمساعدات الاجتماعية والصحة ووو..أشياء وأشياء يضيع العمرُ في ذكرها هباء !! يحاول بعض الموبوئين تجريد بورقيبة من شعبيته الكبيرة وحشره في زمرة العملاء الذين يأتي بهم الإستعمار فجأة على ظهر دبابة.ولو نحاول جمع المواقف والشواهد التي تدحض هذا البهتان وتؤكد شعبيته لإحتجنا كتَابا وكتُبا..فإستمعوا مثلا الى هذه الحكاية: حين تم اختياره للهجرة المشرقية متخفّيا للتعريف بقضية البلاد ولا سيما بالجامعة العربية حديثة العهد حينئذ،مر بقرية ساحلية وكان يتنقل متخفيّاعلى الرقابة ،فتم إخفاؤه في تلك الليلة بغرفة كان صاحبها في ليلةغير عادية:ليلة زفافه!..لكنه تنازل وناموا جميعا في تلك الدار!(وبما أنّ الذي يفعلِ الخيرَ لا يعدَمْ جوازِيَهُ، فقدأصبح ذلك الرجل بعد الإستقلال من الذين يدخلون على بورقيبة دون إستئذان!!...المنزل أنا مررتُ بجانبه، ويقع بقصيبة المديوني، أما إسم صاحبه فهو محمد مالك شتاء، وعروسه حليمة). وهذه الشعبية كانت تعم كامل البلاد دون تمييز، فبورقيبة لم يكن أبدا جهويا كما يحاول تشويهه بعض السفلة.وهل يعقل أن يكون جهويًّا والحال هو نشأ من صميم الشعب ومن أسرة ومن منطقة شبه بائسة فقيرة ؟؟!..(صحيح، بورقيبة في عهده تكوّن بعض التفاوت الجهوي. لكن هذه قضية يطول شرحها. أنظر مقالي منذ سنتين- الشروق، الزعيم بورقيبة بالأرقام-.أما الجهوية ،فإن وُجدتْ، فقد تم إفتعالها فقط بعد الثورة..ومن ابرز مثيريها هؤلاء الموبوئين!). وللتدليل على شعبية بورقيبة بكامل البلاد( وهي حقيقة ساطعة لا تحتاج برهانا) إليكم هذه الحكاية الثانية وقعت بالجنوب حين تم نفيه ومعه الطاهر صفر الى قبلي ،قبل ان يتم نقلهما الى "برج البوف"مع بقية الأعضاء..وفي ذلك الحانوت كان يصلهما الدعم والإسناد المادي والمعنوي من الأهالي وخاصة من عجوز سمراء عاملتهما معاملة الأم...ولما إستقلت البلاد لم ينس بورقيبة ذلك: فمن يبحث عن إسم أول سائقي سيارة بورقيبة يجده ولَدَ تلك العجوز!..( كان مقربا من بورقيبة حتى أنه أحيانا يأتي الى قبلي بالسيارة الرئاسية بمفرده ،وقد شاهدتها مرة بعيني! أما الحانوت فهوعن مقربة من منزلنا في منتصف الطريق الى المعهد.لقد وقع ترميمه بُعيد الإستقلال ووضعوا فوق بابه رخامة كتبوا عليها: مقرّ وعرينْ ومحجّة للمناضلينْ.وتحت هذا : أرادوهُ خنقًا فكان منطلَقًا!..والذين قاموا بذلك هم مثقفو واعيان قبلي حينئذ ومنهم أبي محمد بن حميدة وعبودة بن ضوء و مصطفى زغدود، أول رئيس بلدية،وربما المنوبي العزابي وعبد الجليل المنتصر..) أمّا إعدام الشهيد الهادي جاب الله،أصيل الجنوب الغربي،الذي نفّذ وصية الوطنيين بتصفية ولي العهد عز الدين باي لتعامله مع فرنسا، فقبل اطلاق الرصاص عليه رفض الغطاء ورفض حتى تلقين الإمام الذي أتوا به..لكنه مات وصوته مرتفع: تحيا تونس يحيا بورقيبة!..نعم هكذا ! أما عن وفاء بورقيبة للسياسي العراقي الكبيرفاضل الجمالي فيقول التاريخ : خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 54 كان يوجد شخص أمامها يحاول الدخول للتعريف بقضية بلاده، لكن حراس المبنى كانوا يمنعونه،فجلب هذا إنتباه الوفد العراقي ووزير خارجيته الذي تقدم من "ذلك الشخص" مستفسرًا.ولمّا إقتنع بقضيته لم يجد من حيلة سوى أن ألبسه الشارة العراقية على صدره ليدخل معهم بإعتباره عراقيا!..وفي الجلسة العامة وبعد إن تحدث الوزير العراقي أحال الكلمة بنفسه الى "ذلك الشخص"بعد أن عرّف به.فكانت مداخلته قوية ومؤثرة تفاعل معها الحضور مما دفع بالوفد الفرنسي الى الخروج...وإثر الجلسة قال" ذلك الشخص" للوزير الشهم :لا أنا ولا بلادي يمكننا نسيان موقفك!!...بعد 4سنوات قامت الثورة العراقية بقيادة الجيش ضد الملكية التي حُكم جل كوادرها بالإعدام، ومنهم ذلك الوزير نفسه. ونظرا لمكانته على الصعيد العالمي،بإعتباره احد الموقّعين على تأسيس الأممالمتحدة سنة45، فقد تم استنكار الحكم عالميا وكان الرئيس بورقيبة من أول المستنكرين ومعه همرلشولد و جمال عبد الناصر ونهرو..فتم تخفيف الحكم الى المؤبد..(وتقول بعض المصادر أن بورقيبة حين بلغته إستضافة من السلطة العراقية للإحتفال معهم بذكرى الثورة كان ردّه : أنا لا أدخل بلدًا فيه فاضل الجمالي سجينًا!..).وفي سنة61 افرجوا عنه وتم نفيه خارج العراق..وكان بورقيبة يترصده ،فلما علم بوجوده في سويسرا ارسل إليه وزير خارجيته يطلبه،لكن فاضل الجمالي إستهان بالدعوة معتقدًا أن بورقيبة يريد تحويل منفاه من سويسرا الى تونس.فقال له الوزير: إنك ستدخل تونس كتونسي!!..وفي تونس تمت تسمية شارع بإسمه، واسندوا له مسكنا وراتبا (لكنه رفض الراتب وفضل العودة الى سابق عمله كأستاذ بالجامعة..)...واستمر بتونس الى وفاته التي سبقت وفاة بورقيبة ب3 سنوات..