في فرنسا، وهي من الديمقراطيات العريقة، وتفاعلا مع احتجاجات السترات الصفراء، أطلق الرئيس ماكرون مبادرة كبرى للحوار( le grand débat). ويلتقي غدا الاثنين ستين من كبار المثقفين للاستماع الى مقارباتهم. وقريبا منّا يتّجه الأشقاء الجزائريون إلى تفعيل مبادرة الندوة الوطنية الكبرى للحوار لتجاوز المطب الحالي وإيجاد نقاط التقاء بين مختلف الفرقاء لحماية بلدهم من كلّ الفتن. ومهما اختلفت الآراء ازاء هذا المقترح فإنّ تأجيل الموعد الانتخابي سنة أخرى سيكون حتما أفضل من فتح أبواب البلاد على المجهول. وقبل هذا شكّل الفرقاء في ألمانيا حكومة بين الحزب الأغلبي والمعارضة، هل نحن أكثر ديمقراطية من ألمانيا؟ هل نحن أكثر التزاما بالدستور من فرنسا والجزائر وغيرها من الدول؟ الأوضاع الاستثنائيّة لا تُعالج بالأساليب والأدوات التقليدية، تحتاجُ الى ابتكار أساليب استثنائية تتناغم مع الحاجة العاجلة لتفادي الأسوأ. فحماية الأوطان وتوفير ضمانات السلم الأهلي والوحدة، هي السبيل الى إزاحة كوابيس الخطر ورفع التحديات وتخطّي المنعرجات الصعبة بأمان. انقطعت السبل بالطبقة السياسيّة في بلادنا، الى درجة القطيعة مع الواقع. فالأزمة في تونس اليوم، هي في النخبة التي تقفُ في نكران غريب لوضع صعب تعيشهُ البلاد اقتصاديا واجتماعيا، موجّهة كامل جهودها لخدمة الشأن الانتخابي، دون سواه. فالجميع منكب على التعبئة والتحشيد وضرب الخصوم وكسب النقاط على حساب الحقيقة والواقع. بل إنّ البعض منغمس في حبك المؤامرات ونشر الإشاعات والأكاذيب وتغذية سموم الفتن المختلفة وإعمال معاول التخريب والهدم. لكن، ورغم ما يحدث وما يجري في الكواليس وما بلغته النخبة من ارتهان الى الحسابات الانتخابيّة الضيّقة، ما زال هناك بصيص من الأمل لانقاذ الوضع واعادة قاطرة الوطن الى سكّتها الصحيحة بعيدا عن المخاوف والمحاذير السيِّئة. ولا خيار للطبقة السياسيّة جميعها دون استثناء، إلاّ الذهاب الى طاولة الحوار لرسم طريق وفاقيّة ومحل إجماع تمكّن من حُسن إدارة مرحلة ما قبل الانتخابات بأقل الأضرار وأخفّ الخسائر، وإعادة إحياء الأمل في النفوس. وهو الأمر الأهم في ظل ارتفاع رهيب لمنسوب الحيرة واليأس والإحباط. ولا عيب في الحوار، بما فيه من اعتراف بالفشل وإقرار بدقّة الوضع وما يقتضيه من تنازلات متبادلة وتسويات مرضية للجميع. فثنائيّة الأغلبيّة والأقليّة ليست مقدّسة، خاصة في الظروف الصعبة والأزمات الخانقة. فالانحناء أمام العواصف والترفّق بالوطن وقيم العيش المشترك أولى من القطيعة والتمترس في الحصون والقلاع المتقابلة، وأفضل من التمسّك بقناعات أو مواقف أو حتى قواعد دستوريّة، ناهيك عن أنّ بلادنا تعيش منعطفا تاريخيا وحضاريا بارزا. إذ لا اختلاف في أنّ الانتخابات القادمة هي محطّة مفصليّة في تثبيت أسس الجمهورية الثانية، الديمقراطية التعدّديّة العادلة، محطّة تحتاجُ أن تُدار في مناخ عال من الاستقرار والثقة والتفاهم.