أطلق رئيس الجمهوريّة في خطابه بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال ما يُمكن تسميته بصفّارة الإنذار. فالوضع لم يعد يُحتمل، مثلما تبيّنه الأرقام التي سردها الرئيس في خطابه. وهي أرقام ثابتة ولا خلاف حولها ولا حول قراءتها. وعكست مواقف السبسي الأخيرة، خاصة تجاه رئيس الحكومة وحركة النهضة، استعدادا لتقديم تنازلات.وكان هذا هو المطلوب في الراهن الذي تميّز بانسداد الآفاق السياسيّة لأشهر طويلة وغياب الثقة بين فاعلين كبار في إدارة الشأن العام ورسم برامج العمل وخطط التطوير والتنمية والاستثمار. ففي الأزمات والأوقات الصعبة، وخاصة منها حالة التمترس والاستقطاب الثنائي، لا بدّ من التحلّي بالحكمة وامتلاك جرأة تحريك المياه الراكدة وشجاعة المبادرة بالتراجع وتقديم البعض من التنازل وتعديل المواقف تيسيرا لتحقيق لمّ الشمل والوحدة الوطنيّة التي تبقى صمّام الأمان والسبيل الوحيدة الى الإنقاذ. إلى وقت قريب، باتت الحياة الوطنية لا تتحرّك الاّ على وقع ترتيبات الانتخابات المنتظرة شهري أكتوبر ونوفمبر القادمين، إلى درجة أوجدت حيرة لدى الرأي العام ومتابعي الشأن التونسي عن الآفاق المستقبليّة للبلاد وما قد تؤول إليه الأوضاع، اقتصاديا واجتماعيا، وعن تركة ثقيلة سوف تُلاقي من سوف يفوز من هؤلاء المتسابقين الى قصري قرطاج والقصبة ومجلس نواب الشعب. ورغم أنّ هناك ما يُشبه الإجماع على واقع صعب جدّا ومعقّد تعيشه البلاد، مع تراجع الكثير من المؤشرات وكثافة التحديات الماثلة وازدياد الرهانات على أكثر من صعيد، لا تشي كواليس الطبقة السياسيّة سوى بهوس انتخابي مُتصاعد ميزته عودة خطابات الكراهيّة والحقد ونوايا الإقصاء والاستبعاد ومناهج الشيطنة والإدانة والتجريح. الخطوة التي قطعها رئيس الجمهورية، بحساب الراهن الصعب والرهانات القادمة الهامة، بل المصيريّة، خطوة على غاية من الأهميّة لأنّها تُعيد نصيبا من الأمل وقدرا من الارتياح وتفتح الأبواب نحو أفق جديدة للممارسة السياسيّة والعلاقات بين مختلف الفاعلين السياسيّين. وقد كان لافتا للنظر في هذا الصدد تعبير نور الدين الطبوبي الأمين العام لاتحاد الشغل عن دعم مبادرة الوحدة الوطنيّة واستعداد المنظمة الشغيلة للعمل على إنجاحها ورفض يوسف الشاهد رئيس الحكومة التعليق على مضامين الخطاب، بالرغم ممّا جاء فيها من انتقاد للعمل الحكومي، مكتفيا بتحيّة الروح الوطنيّة لرئيس الجمهوريّة، وأيضا تثمين المكتب التنفيذي لحركة النهضة ما ورد في خطاب الرئيس من معانٍ تؤكّد لمّ الشمل والعمل الجماعي والوحدة الوطنيّة ودعوتها كافة الأطراف الى التفاعل الايجابي معها. في الظروف الاستثنائيّة، لا تكفي المعالجات التقليدية. وقد لا يكون للأغلبيات والتوازنات البرلمانية صدى كبير ونجاعة في حلحلة الوضع المتشابك والمعقّد. بل تحتاجُ تلك الظروف الى روح عالية من المسؤوليّة للقبول بمبدإ التسويات والتنازلات المتبادلة وضبط التوافقات القادرة على إخراج الجميع من مأزق العجز عن الفعل وإيجاد الحلول. وتُعيد عناصر الثقة وتؤمّن الطريق إلى ما هو أفضل.