تونس الشروق: فيما تحترق الدولة والشعب باشتعال أسعار المحروقات تندفع الأسئلة بشأن الأسباب الحقيقية لأزمة بدأت عام 2011 ولا يستبعد أن تؤول في أجل قريب إلى فقدان البنزين في محطات بيع الوقود اضطراب شبكة الكهرباء. جذور هذه الأزمة بدأت بشيطنة مفتعلة لملف الطاقة في تونس أدركت مداها بما يسمى حملات «وينو البترول» التي يتأكد اليوم أنها لم تكن بريئة بل كان هدفها ضرب سلطة الدولة على الثروات الطبيعية من خلال التشكيك في مصداقيتها ومن ثمة استباحة مواقع انتاج النّفط والغاز تحت يافطة «الحراك الاجتماعي» الذي بلغ مداه يفرض دفع «الجزية» على الشركات النفطية من خلال إجبارها على دفع منح شهرية لمئات الأشخاص وهم قابعون في بيوتهم لتحظى بالسلم الاجتماعي؟ وهذا المناخ الذي أدى إلى إلغاء الوجهة التونسية من مشاريع شركات التنقيب عن المحروقات الوطنية والعالمية يبدو اليوم جليا أنه قام على مغالطات أوهمت الناس بأنهم يجلسون على بركة نفط والحال أنه استنادا إلى علم الجيولوجيا فإن تونس لا يمكنها أن تكون بلدا نفطيا حيث يفترض أن تكون مساحة الصحراء التونسية 20 ضعف المساحة التي منحتها إياها الطبيعة حتى نبلغ مستويات الانتاج الموجودة في الجزائر أو ليبيا. 742 بئرا استكشافية وبلغة الأرقام فإن تونس شهدت منذ أول عملية تنقيب عن المحروقات في ثلاثينيات القرن الماضي حفر 742 بئرا استكشافية في البر والبحر دون أن تتمكن من اكتشاف «ثروة النفط» المزعومة.. وحتى العصر الذهبي الذي أدركته تونس إبان دورة نشاط حقلي البرمة وعشترت سران ما بدأ في الانحدار منذ بداية تسعينات القرن الماضي مع مسار تشيخ الحقلين المذكورين الى تزامن مع صعود الاستهلاك مع تسارع حركة التصنيع وارتفاع مؤشرات الرفاه الأسري. وهذه المعادلة واجهتها تونس بالحفاظ على حركية تنقيب نشيطة لاكتشاف أكثر ما يمكن من الحقول المتوسطة لتحقيق نوع من التوازن في ميزان الطاقة حيث كانت تونس قبل 2011 تسترد 10 ٪ من احتياجاتها بفعل ديناميكية التنقيب من خلال حفر 12 بئرا استشكافية سنويا. الدستور والبرلمان لكن هذا التوازن سرعان ما انهار منذ 2011 حيث لم تسند تونس منذ هذا التاريخ ولو رخصة تنقيب واحدة عن المحروقات بما جعل هذه الحفريات الناشطة تتراجع تدريجيا من 50 عام 2010 إلى 23 حفرية حاليا وهنا مكمن الداء الذي ساهم في حبكه دستور 2014 ثم البرلمان الحالي عبر افتعال ضبابية في مرحلة أولى حول صلاحيات إسناد رخص التنقيب أو الصياغة المبهمة للفصل 13 من الدستور ثم افتعال تنازع اختصاص بين البرلمان والادارة حول هذه الصلاحيات أبّد بالنتيجة جهود نشاط التنقيب عن المحروقات ومن ثمة مسار انهيار الانتاج الذي نزل تحت عتبة 40 ألف برميل في اليوم مقابل أكثر من 80 ألف برميل قبل 2011. ومن هنا دخلت تونس في نسق توريد للمحروقات يتجاوز بكثير إمكانياتها الحقيقية حيث أن واردات الستاغ لوحدها من الغاز الجزائري تجاوزت العام الفارط رقم معاملاتها السنوي (4300 مليار بالدولار الأمريكي) ومن هنا دخلت الدولة من عام ونصف في منعرج خطير من خلال تصدير النزيف الحاصل في موازناتها بفعل تضخم فاتورة استيراد النفط والغاز إلى كل من المواطن والمؤسسة الاقتصادية من خلال زيادات متتالية ضربت في العمق القدرة الشرائية للمواد الأعظم من المجتمع والقدرة التنافسية للاقتصاد.. فيما انضاف هذا الحريق المستجد إلى تأثيرات لتغول الاقتصاد الموازي وانهيار منظومة الفسفاط ضمن أهم العوامل التي خلقت انزلاقات أخطر للدينار وصعودا لافتا لمستويات التضخم. الفصل 96 والأخطر من ذلك أنه حتى لو قررت الدولة اليوم إعادة تنشيط عمليات التنقيب عن المحروقات واستعادة نفوذها الكامل على مواقع وامدادات النفط فإنها لن تجد مسؤولا واحدا مستعدا للتوقيع على رخصة تنقيب المحروقات نتيجة تأثيرات الشيطنة المفتعلة لهذا الملف التي أدركت ذروتها بملابسات العزل والملاحقات القضائية التي طالت كلا من وزير الطاقة وكاتب الدولة للمناجم في الآونة الأخيرة وذلك إلى جانب التأثيرات المباشرة لملاحقة مئات المسؤولين منذ 2011 على معنى الفصل 96 من المجلة الجزائية الذي حول في أغلب الحالات الاشتغال الطبيعي للمرفق العام إلى جريمة تستحق العقاب، وبالنتيجة فإن تونس سائرة في حال لم تستجد متغيرات تعيد للدولة سلطتها على هذا القطاع نحو منعرج أخطر هو عدم قدرة الدولة على توريد كامل احتياجاتها من النفط والغاز ومن ثمة فقدان البنزين في المحطات وارتباك محطات توليد الطاقة. وفي الأثناء يندفع السؤال لحساب من تدفن في باطن الأرض طاقة انتاجية تناهز ضعف الانتاج الحالي ليحترق الشعب بأسره بنار المحروقات.