لا تنفكّ النخبة السياسيّة عن تكرار تشخيصها للوضع العام في البلاد، من حيث صعوبته على أكثر من مستوى، وخاصة اقتصاديا واجتماعيا، وما بلغهُ المزاج العام من يأس، وما يتهدّد الوطن من مخاطر إرهابيّة وارتدادات سلبيَّة مُحتملة ناجمة عن التحوّلات والأحداث الجارية في المنطقة شرقا وغربا. ولا تستنكفُ نفس تلك النخبة، في الحكم والمعارضة، عن ترديد اسطوانة مفردات مثاليّة في خطابها، من مثل مصلحة تونس فوق كلّ اعتبار والتوافق والوحدة الوطنيّة وأخلقة العمل السياسي ومكافحة الفساد والشفافيّة والحوكمة الرشيدة، لكونها الحل الوحيد لتجاوز مطبّات الحاضر والاستعداد للمواعيد الانتخابية القادمة وفتح آفاق الأمل في المستقبل من جديد. ولكن لا شيء على الأرض يتغيّر. بل بالعكس تزدادُ الصورة ضبابيّة ويرتفعُ منسوب الخيبة باستمرار لدى القطاعات الواسعة من المجتمع. وهو ما تعكسهُ مظاهر التأزّم وعدم الرضا والاحتجاج المختلفة، والمستمرّة والمتزايدة من يوم الى آخر. الممارسة السياسيّة في تونس اليوم أصبحت مملّة وباعثة على الحيرة فعلا. فهي ممارسة لا تفعّل مفردات الخطاب ولا تدفع برؤية مستجدات عمليّة وفاعلة في حياة المواطنين تساهم في رفع ولو جزء من الضغوط المسلّطة عليهم في معيشهم اليومي. هناك ما يُشبه حالة الركود، بشكل يُوحي بأن لا أحد من الفاعلين السياسيّين يمتلك القدرة على تحريك المياه الراكدة، فلا رئيس الجمهورية ولا الاتلاف الحاكم ولا مجلس نواب الشعب ولا قوى المعارضة المختلفة، لا أحد من هؤلاء له من القدرات والإمكانيات لفرض خطّة لإنقاذ الوضع. فالإرادة غائبة والعزيمة منقوصة بشكل يُوحي وكأنّ الحسابات الحزبية والانتخابية والمصالح الضيّقة باتت أعلى شأنا من المصلحة العليا للبلاد. هذا الوضع المُريب يُكثّف من حالة الانفلات والتسيّب ويُراكم محاذير ومخاوف بالغة الخطورة على ما بقي من معالم الاستقرار والهدوء وقيم العيش المشترك. فمظاهر العنف، وأخطرها العنف السياسي، في استشراء وخطاب الشيطنة والأحقاد بات سلاحا لنشر المزيد من الفتن. والاحتجاج السلمي أضحى مشبكا لتفريغ شحنة الغبن والتجاهل التي أصبحت تسكنُ جلّ الفئات والقطاعات والجهات. تحتاجُ الحياة الوطنيّة الى الكفّ عاجلا عن خطابات التنميق والنفاق السياسي والمفردات الجوفاء والوعود الكاذبة ونوايا التسويف واستبلاه العقول. فالحقيقة المرّة واقعة، ولا مناص من ممارسة سياسيّة بإرادة للفعل والإنجاز الملموس على قاعدة تغليب مصلحة الوطن أولاّ، وتكريسا لتوافق واسع ووحدة وطنيّة صادقة وحقيقيّة للإنقاذ.