انطلق الربيع العربي من تونس لتنتشر موجة إسقاط الانظمة القائمة وغالبا بنفس التسلسل : حادثة كبيرة مؤثرة ذات بعد عاطفي، تلتهب على اثرها حماسة الجماهير، وتخرج جموع المواطنين الغاضبة للاحتجاج وهي المشحونة أصلا نتيجة عقود من الفساد والظلم والبطالة والفقر وانسداد الافاق، ثم تمر سريعا الى المناداة بسقوط النظام الذي يتهاوى في أسابيع أو في أقصى الحالات في أشهر تقريبا نفس السيناريو تكرر في مصر ، ليبيا واليمن : ثورة، فصياغة دستور جديد، ثم انتخابات تؤول بعدها السلطة الى الإسلاميين وحلفائهم.الاستثناء الوحيد كان في سوريا، حيث صمدت فيها الحاضنة الشعبية (أساسا في الشام السنية) للنظام ولم ينقلب جيشها العقائدي على قيادته ونجحت القيادة السياسية والعسكرية في نسج شبكة حلفاء إقليمية ودولية حمت الدولة والنظام من السقوط عندما تحولت «الثورة» السلمية الى حرب ارهابية دولية من الجيل الرابع موجة الاندفاع الربيعية تمت تحت عقيدة أوباما/كلينتون(La doctrine Obama/Clinton) : الإشراف أمريكي برعاية غربية، القيادة والريادة للمحور التركي القطري الاخواني و الإسناد الخلفي واللوجستي والاعلامي لباقي المنظومة الخليجية (الامارات والسعودية) المتوجسة من النفوذ القطري المتعاظم ومن خطر تسرّب الاخوان المسلمين إلى أطرافها جوان 2013 (معركة القصير) مثّل نقطة التحول الاستراتيجي في مسار الربيع العربي: فيه تدخل حزب الله في سوريا وهزم قوات جبهة النصرة والجيش السوري الحر، وقفزت القيادة العسكرية المصرية على اللحظة الاستراتيجية الحرجة للالتفاف على الاخوان المسلمين في مصر وأسقطت حكمهم تقريبا بنفس آليات الربيع (غضب شعبي عارم، مظاهرات ضخمة وتحرك الجيش لإسقاط الرئيس) معركة القصير كانت أيضا اللحظة التي انقلب فيها محور الامارات/السعودية على محور قطر/تركيا بعد أن رضي مُكرها بالأدوار الثانوية : ساندت السعودية والإمارات الإطاحة بحكم الاخوان في مصر، واستلمت السعودية الملف السوري من قطر عبر الامير بندر بن سلطان، ونزلت الامارات بثقلها وراء الجنرال خليفة حفتر في ليبيا قبل ان تقوم السعودية بمحاصرة قطر تمهيدا لاجتياحها . كان هذا ملخص لتسع سنوات من صراع المحاور على كامل الاقليم الممتد من العراق الى المغرب العربي اليوم ربما نحن نعيش الموجة الثانية من تقلبات الربيع العربي، تتهاوى فيها الانظمة بأقل زخم إعلامي ولكن بنفس سرعة الموجة الاولى مع تعديلات مهمة : إحتجاجات شعبية سلمية عارمة تتوج بانقلاب عسكري يرعى «انتقالا» للسلطة تحت السيطرة والتحكم تقريبا نفس السيناريو في الجزائر وليبيا(مع اعتبار خصوصيات الوضع الليبي) والسودان، من السابق لأوانه الحكم على أحداث ربيع الشعوب والجيوش، ولكن الثابت أن هناك خيطا ناظما يجمع بين ما يقع في الجزائر وليبيا والسودان الدور المتحكم للنخب الحاكمة التقليدية في سير الاحداث الدور المحوري للجيوش التي تحسم الامر، تُسقط رأس النظام وتحاول السيطرة والتحكم في مسار ونتائج الثورات صراع وتسابق على النفوذ بين محوري تركيا/قطر والسعودية/الامارات لتوجيه الاحداث في كل بلد لمصلحة هذا المحور او ذاك خسارة الاخوان والإسلاميين لمراكز قوتهم ونفوذهم: الخرطوم وربما قريبا في طرابلس. أين تونس، من كل ما يحدث حولنا وعلى حدودنا ؟ تونس الاستثناء الديموقراطي الوحيد الذي خرج من محرقة الربيع بأخف الأضرار وأقل الخسائر، تونس التي تجمع بين حالة الديمقراطية الناشئة وإمكانية الدولة الفاشلة، تونس التجربة التي «تتعايش» فيها عناصر النجاح وعوامل الفشل ويتصارع فيها أنصار الاستقرار وأحباء اللا استقرار ببساطة شديدة ، تونس في عين الإعصار، بل إن جميع مكوّنات الموجة الربيعية الثانية كانت تتكثّف أمام أعيننا منذ قرابة العام : الازمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة (الحقيقية ولكن ايضا المصطنعة إعلاميا أحيانا والمبالغ فيها احيانا اخرى) بلوغ الصراع السياسي الى نقطة الذروة وأحيانا اللاّعودة امتداد صراع المحاور الإقليمية الى قلب الساحة الداخلية عبر مختلف الاحزاب والقوى السياسية المتصارعة في ما بينها والمنخرطة بحدّة في معاركها الداخلية والمستندة فيها الى الحلفاء الإقليميين نفوذ سياسي قوي ووازن ومتصاعد للإسلاميين مقابل قوى داخلية فاعلة ومؤثرة معادية لذلك النفوذ تيار فكري وسياسي وشعبي يروّج ويدفع بأفضلية الحياة تحت المنظومة السابقة، وينظّرُ لفشل الديمقراطية وفساد جميع الأحزاب وانعدام كفاءة كامل الطبقة السياسية ويحلم بالبيان رقم واحد المنقذ والمخلِّص والمتنوّر والوطني والكفء العنصر الوحيد الذي لم «يتوفّر» الى حد الان، هو خروج الناس الى الشوارع بكثافة للاحتجاج وإطلاق شرارة ال»ثورة» ........ رغم وجود الرغبة، والنية والمصلحة وحتى المحاولة وإعادة المحاولة تذكروا أجواء ديسمبر وجانفي، وتابعوا ما قد يُطبخ في الاسابيع والأشهر المقبلة. بقلم: الصحبي بن فرج (نائب بمجلس نواب الشعب)