يؤكّد علماء الإسلام من فقهاء ومفسّرين أنّ السنّة الشاملة لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ، وباعتبارها المصدر الثاني للتشريع ، تكمّل القرآن بتوضيح الغامض و تفصيل المجمل . ويعتقد مدوّنو السيرة ودارسوها أنّها ، وبصفتها المسجّلة لحياة الرسول (ص) ، شيء آخر غير القرآن . وكان الرسول نفسه قد نهى عن كتابة كلامه الشخصي خشية التباسه بكلام الله ، وهو الناطق به حسب تنزيله منجّما وموحى به إليه. لذلك لم تدوّن السنّة إلاّ بعد حوالي قرنين من وفاة الرسول الكريم، وظلّ الاهتمام مركّزا تدوينا ثمّ تفسيرا على القرآن المجيد. وأثناء القرنين ، بل وحتّى في حياة الرسول، نسبت إليه أحاديث لم يقلها ، ومنها ما عرف بالإسرائيليّات ، حتّى أنّه توعّد من كذب عليه بتبوّؤ مقعد من النار . وقد أثارت عدّة دراسات حديثة جدلا وشكوكا حول صحّة « صحيح البخاري «، وانكشف المغرض منها مقابل المعقول المقنع بما جيّش المدافعين في مواجهة المعارضين. وهذا لا يعنينا كثيرا ، وإنّما يعنينا النصّ القرآني باعتباره المصدر الأوّل و الأساسي والمرجع الذي نطمئنّ إلى صدقيّته أكثر من سواه ممّا اختلف فيه الأيمّة وتباينت لأجله المذاهب ، ولو أنّ ذلك النصّ نفسه ظلّ مجال اختلاف في الفهم والتأويل حتّى في ما بين أهل السنّة والجماعة ، بل و بين أصحاب المذهب الواحد إلى حدّ تبرير الاختلاف بالرحمة . فكيف يكون الفهم و إلى أيّ درجة يبلغ الاختلاف اليوم في ضوء مختلف العلوم والاختصاصات و المقاربات بين دارسين، منهم المسلم ، ومنهم المسيحي ، ومنهم العلماني، إلخ من العقائد و الإيديولوجيّات ؟ ومن حقّي بالقليل الذي أوتيته من العلم أن أنظر بعقلي في ذلك النصّ متحرّرا من أسباب النزول ومجريا صلوحيّته على جميع الأمكنة ومختلف الأزمنة. أليس يقال إنّ القرآن صالح لكلّ زمان ومكان ؟ ومن حقّي أيضا أن أخالف السابقين و أختلف مع المعاصرين في القراءة بمثل اختلاف الصحابة إلى حدّ رجوعهم إلى الرسول و بقدر اختلاف التابعين إلى حدّ رجوعهم إلى الصحابة و على نحو اختلاف تابعي التابعين و استفتائهم للتابعين ، هكذا حتّى انقطع السند العلمي ولم يعد الناظر في ذلك النصّ قادرا على الإحاطة بكلّ ما قيل فيه آية آية أو متقبّلا أو مطمئنّا لقول دون آخر. أليس حريّا بكلّ منّا ، وباللغة وحدها ، أن يتعامل مع ذلك النصّ فيفهم منه ما يفهم ويدرك من مقاصده ما يدرك ؟ وأهمّ ما فهمت وأدركت منه أنّه صالح لنا ولمن بعدنا إذا جرّد من تاريخيّته ، أي من ظروفه التي حدّدتها الشخصيّات و الأحداث بما نقل من الأقوال وذكر من الأفعال وحمد أو ذمّ من المواقف . ففيه ذلك، وفيه بالخصوص متعلّقات الرسول وغيره من سالف الأنبياء و المرسلين ومن المؤمنين و المشركين . فيه أقواله و أقوالهم كمثل الأجوبة و الأدعية التي أمر صلّى الله عليه وسلّم بأن يقولها. من ذلك كلامه للكافرين في سورة الكافرون، ودعاؤه في المعوّذتين، وتوحيده في سورة الإخلاص، وحمده لربّ العالمين في الفاتحة . وهذه السور القصيرة وحدها كافية لإقامة الصلاة و بأحسن من سورة المسد المتوعّدة لأبي لهب و امرأته ، وبأفضل من آيات الأحكام و قصص الأنبياء المتشابهة و المكرّرة بطريقة أو بأخرى ، بل هي جوهر الدين ، دين التوحيد و الإيمان بالله و باليوم الآخر، دين القيم الروحيّة و المبادئ الأخلاقيّة و المثل الإنسانيّة التي تشمل جميع خلق الله على الدوام . وأختصر كلّ هذا لأقول إنّ السنّة النبويّة ليست في كتب السيرة كسيرة ابن هشام المشحونة بالغريب و العجيب ، و إنّها ليست في كتب الحديث المختلفة عددا و إسنادا و التي التبس فيها المعقول باللاّمعقول إلى حدّ مخالفة القرآن ، بل هي – كسيرة ذاتيّة – مضمّنة في ذلك النصّ الشامل و مبثوثة فيه بما يجعلني أطمئنّ إليها فيه وأستنكف منها في كتاب آخر مهما قيل عن ثقة مؤلّفه . وبناء عليه أحسب أنّي – ككلّ باحث – قادر على استخراجها منه وتنظيمها لتكتمل الصورة بكلّ وضوح يجلي شخصيّة النبيّ الإنسان في مختلف أحواله من قوّة وضعف ، بين أهله و بين أصحابه و بين مختلف الأطراف. في ذلك النصّ الجامع أجد حياته كلّها ، وأقف عند انتهاء ذلك النصّ بانتهاء تلك الحياة ، وقد تمّ الأمر و بلغت الرسالة فلا حاجة بعد ذلك لتمديد تلك الحياة و إضافة وحي جديد.