الإطار العام للدراسة: اعتمدت الدراسة الصادرة عن مجلة كراسات تونسية الصادرة عن كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس ، للباحث المنصف وناس (مدير عام مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية بتونس) على عينة من حلقات برامج لعب ربحي مع التركيز على برنامج "دليلك ملك" لتبين ان الصورة التلفزية تؤدي دورا مهما في الاقبال على استهلاك المضامين الاعلامية من جهة وعلى استهلاك برامج الرهان المالي من جهة اخرى . ولعل ذلك،حسب الباحث، ما انتج ظاهرة شهوة المال والافراط في هذه الرغبة في المشاركة في البرامج . ولكن شرط هذه المشاركة هو شرط القبول بعقد التنازلات النفسية والعلائقية . وقد حاولت الدراسة الاجابة عن الاسئلة التالية: كيف يمكن ترويج المال عبر الشاشة وتحويله إلى مجال رهان جماعي ؟ و كيف يمكن توظيف الصورة في استثارة شهية المال لدى التونسيين وإغرائهم بالإقبال على "لعبة" صناديق الحظ قصد تحصيل أموال دون تعب أو جهد ؟ و ماهي الآليات النفسية والذهنية والثقافية والفنية لجعل المال وهما جماعيا في مرحلة تتسم بازمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية عميقة وفي مجتمع يسعى إلى إن يعيد بناء عقله الجماعي ونظامه القيمي ؟ و كيف يمكن بناء شهوة المال واستحثاث الرغبة فيه اعتمادا على دور الصورة في خلق شهية الثراء السريع والربح العجول ؟ عينة الحلقات المعتمدة في الدراسة: شملت الدراسة تغطية تحليلية لثلات برامج عبر ثلاث قنوات وهي كما في الجدول التالي: كما يشير الباحث الى وجود عدد من محددات التأثير ومنها: السيطرة على معمار الأستوديو والانتباه الى كيفية بناء الدلالات : ان تنظيم الاستوديو من الداخل وكيفية ترتيبه يغريان بالمشاركة ويشجعان على البحث عن المال فيتم توزيع 24 صندوقا بحسب عدد ولايات البلاد التونسية . ويشارك عن كل ولاية ممثل واحد . لمزيد التوضيح ، يمكن ان يشير الباحث الى ان برنامج "دليلك ملك"يتوفر على عناصر جاذبية كثيرة وعلى موارد متعددة تشجع على المشاركة وعلى الاندراج في منطق البرنامح ، وذلك بناء على مكر تلفزي واضح مجسد في الاليات النفسية الجذابة التالية : -أولا:- تنبني الحصة على جو مرح وهازئ وعلى حرص على الترفيه والتسلية وبناء مناخ يتسم بالغناء والفذلكة و اتيان حركات الرقص الامر الذي يجعل المشاهدة مغرية والرغبة في المشاركة ملحة ويخلق ما نسميه بالجراة الاجتماعية المتلفزة . -ثانيا: يتعمد منتج البرنامج استغلال حاجة المترشحين الى المال مثل اتمام بناء البيت واضافة غرفة نوم وبيت اطفال او دفع ديون او سداد القروض وخاصة قروض شركات الايجار المالي . وتتوتر عملية التذكير بالحاجة الى المال حسب مفاصل البرنامج . ولكن مجمل الاشارات المبثوثة في معمار البرنامج والكلمات المنتقاة تفضي الى ارسال خطاب محبوك بدقة مفاده ان الصعوبات المالية ليس لها حلها الجهد والعمل وانما القبول بمنطق الربح السريع او ما يعبر عنه في اللهجة الدارجة التونسية ب"اللقمة الباردة" . -ثالثا:- الاشارة الى ان الوصول الى المال متوفر لكل التونسيين ، فيكفي ان يقدّموا بعض التنازلات النفسية والاجتماعية والسلوكية ويقبلوا بالعقد الضمني ، ذلك ان تحسين الاوضاع المادية ليس رهين الجهد ، وانما يكون ثمرة ضربة حظ مثلما هو شان عديد من المشاركين . -2 حسن استثمار المجال الجغرافي الركحي واتقان مقتضيات المسرحة في الاستوديو : و يكون ذلك بكيفية تضمن جاذبية المشاهدة وتاثير الصورة في المشاهدين وترسخ المضامين في عقول المتفرجين وخلق ما يسميه الباحث بالتاثير التكراري الى حد التلاعب بالمخيال . وتسعى هذه المسرحة المتقنة كذلك الى خلق حالة من التهييج المؤسساتي والميديولوجي لجوع استهلاك المال ، والعمل خاصة على استغلال شهر رمضان بكل مدلوله الروحي والثقافي وحاجياته المادية من اجل بناء هذه الرغبة القوية في الاثراء . -3 استراتيجية ناجعة في مجال بناء الخطاب اللغوي : -أولا: - الذكاء في التقديم والتحرك في المجال الركحي -ثانيا- الذكاء في بناء الرسالة قياسا بقنوات اخرى ، وهو ذكاء مستمد من أسلوب أساسه العفوية ولكنها عفوية متقنة وقادرة على بناء الخطاب اللغوي . -ثالثا- القدرة الفائقة على المسرحة الضاحكة والهازئة والمغرية بالمشاركة بما يتخللها من منطوق استفزازي ممثلا في شبكة من العلامات والكلمات الغزلية تجاه السيدات ومن اشارات جنسية مبطنة ومن استثمار لحضور المشاركين ودفعهم لاتيان سلوكيات مثيرة للهزء تخلق بيئة حاضنة للمشاهدة الاستثنائية . انه من بين عناصر قوة برنامج "دليلك ملك" هو ذكاء اختيار التوقيت حيث يبدأ البرنامج دقائق معدودة بعد أذان صلاة المغرب بالنسبة الى مدينة تونس حيث تكون نسبة المشاهدة AUDIMAT مرتفعة والعائلات متجمعة على الطاولة والعيون شاخصة بعد اعياء الصوم يوما كاملا فتنفتح بذلك شهيتان متكاملتان : شهية البطن وشهية العين المطاردة للمال. وتترافق الشهيتان مع جاذبية الاستوديو والجو الهازئ والضاحك داخله والمحرض على اتيان افعال وسلوكيات لا يقدر التونسي على اتيانها في الحياة اليومية العادية . وهي كلها عناصر لانتاج عقلية الربح السريع ووهم المال المتلفز في مجتمع لديه نهم المال حتى وان كان متلفزا . 4 تكتيكات صناعة المال وتطورتها : لقد تطوّرت برامج الرهان المالي في تونس على امتداد عقود من الزمن وخاصة في القطاع الإعلامي العمومي الذي كانت تسيطر عليه الدولة بالكامل وخاصة ادارة الاعلام في قصر قرطاج التي كانت تتدخل في كل تفاصيل الحقل . فقد كانت قنوات الدولة الرسمية (قناة 7 و سابقا 21) هي التي تنظم مسابقات الترفيه ( مسابقات الرهان المالي ) ولكن المبالغ ماكانت لا تتجاوز 500 دينار (اي 220 دولار) لان اجهزة الدولة كانت تحتاط من انفجار شهوات المال بكل نتائجها وعواقبها السياسية والنفسية والاجتماعية . فالملاحظ من الناحية السوسيولجية انه بدا من سنة 2012 و حصل انفجار واضح في مجال العروض المالية ، فقد غادرنا ما نسميه بشهوة المال المراقبة من قبل الدولة عبر الاعلام العمومي اى انفجار الرغبات الفردية وارتفاع ملحوظ في المبالغ المعروضة مع دخول القنوات الخاصة مجال الرهان واقبال التونسيين على المال المتلفز .ففي احيان نادرة تدمج القنوات الاعلامية الرسمية سيارة . فمسابقات الرهان المالي رغم نها كانت مجال مراقبة رسمية لم تكن تتجاوز بعض الحدود والضوابط الخاضعة اساسا لاعتبارات سياسية . فالثورة المتلفزة تولد حرصا على الثورة الواقعية والحقيقية بدليل ارتفاع حالات البحث عن الكنوز واللقايا وانتشار الشيكات دون رصيد فالصورة الافتراضية تستحث الصورة الحقيقية من اجل فتح باب المشاريع وتطوير مصادر الرزق بشكل استثنائي .فالمال يفتح الباب على مصراعيه للثقة في النفس وتقدير الذات ونيل الاعتراف من قبل المجتمع . ولا يجب ان ننسى ان ذلك يولد من الناحية الاجتماعية صراع القيم في صلب المجتمع التونسي وفي بلد يعاني من اصله مشكلة مزمنة يمكن ان نسميها بسوء توزيع الثورة وانتشار الفقر . ولعل ذلك ما يفسر ان كل متبار يستهل خطابه بتأكيد الاحتياج وتكرار الحاجة الملحة والسريعة الى المال لمواجهة صعوبات الحياة ( مرض ومديونية وبناء بيت وزواج الابناء ومتطلبات العودة المدرسية وتكلفة الزواج أو الحج ) من جهة وانجاز مشروع استثماري يطور الموارد الاقتصادية والمادية من جهة أخرى .