لا اختلاف اليوم حول المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها بلادنا والمتّصفة بحالة من الاحتقان العام ومشاعر الخيبة واليأس لدى فئات وقطاعات واسعة من المجتمع، وتطاحن حزبي وسياسي بدأ يتِّجه الى العنف، واستقطابات لم تعد مفهومة يدور جلّها في دوائر السلطة التنفيذيّة ومراكز النفوذ المنتشرة حولها. بلغ المشهد السياسي حالة من الغموض والضبابيّة. وتكاد الصورة اليوم تكون في أعلى درجات التلبّس، في ظل إصرار النخبة السياسيّة على المضي في حروب التموقع الضيّقة والمصلحيّة الآنيّة والمناكفات الجانبيّة، والتي وصل بعضها الى حدّ الممارسات الصبيانيّة والعبثيّة. دونما شكّ، لا أحد يتمنّى أن تتدحرج الأوضاع إلى نهاية كارثيّة، لا قدّر الله، لذا قد يكون من الوجيه القول الآن إنّ الحياة الوطنيّة تحتاجُ، عاجلا، إلى إعادة ترتيب الأولويّات وتنظيم قوانين اللعبة السياسيّة والكفّ عن مظاهر التوتير والاستفزاز والمعارك الوهميّة والقطع مع خطابات التسويف والشعارات الزائفة وسلوك الارتجال والفوضى في إدارة الشأن العام وحالة التسيّب التي باتت تطبعُ مختلف مناحي حياتنا الوطنيّة والانكباب على الاستحقاقات الكبرى في اعادة بناء جسور الثقة وتدعيم أواصر الوحدة الوطنيّة وتحسين ظروف عيش المواطنين وإزاحة طوق اليأس والاختناق من حولهم وتحقيق الأمن الاجتماعي. لا تُقادُ المراحل الصعبة في حياة الشعوب، ناهيك أن تكون تلك المراحل انتقاليّة، بالمغالبة ومنطق الأغلبيّات البرلمانيّة. بل تحتاجُ الى قدر كبير من الحكمة والتروّ وتغليب المصلحة العليا للوطن على ما سواها من المصالح. لا أحد اليوم بإمكانه المُحاججة على ما لحق منظومة الحكم التي تلت انتخابات 2014 من تشوّهات أوجدت وضعا مُريبا وخفّضت منسوب الثقة بين الفاعلين الكبار ومسّ من مبادئ الوحدة الوطنيّة والرغبة في إنجاح التجربة الوليدة الناشئة، وضعيّة هجينة متداخلة مضطربة أوجدت أسئلة حيرة كبيرة حول نوايا البعض في التمترس السياسي والسلطوي والحزبي ولو كان ذلك باستغلال مآسي البلاد ومحنها لتأمين المزيد من المصالح وبسط المزيد من النفوذ والمحافظة على تموقع متقدّم في المشهد الوطني على غير وجه حق. لا شكّ في أنّ تعطّل مسار التوافق الوطني منذ ماي 2018 واتجاه قوى إلى صناعة مشهد بديل عنوة قد أدخل البلاد في بوتقة المجهول، حينما تمّ تأجيج نيران «صراع خاطئ على السلطة» لم يحتكم الى ارادة الناخبين وصناديق الاقتراع. بل كان نتيجة استثمار النفوذ المتوفّر للبعض في أروقة الدولة، وبالتعويل أيضا على البروباقندا الاعلاميّة وحرب الملفات العفنة والمفبركة والسياحة الحزبيّة الغنائميّة والتلاعب الفجّ بموازين قوى برلمانيّة مغشوشة وفيها الكثير من الغلط. لا تحتاجُ البلاد اليوم إلى إمعانٍ في الحسابات الانتخابيّة المُسقطة ولا الى حملات الدعاية السابقة لأوانها، ولا أيضا مشاريع لأحزاب كبيرة ولا إلى تحالفات أو ائتلافات، بل إلى تواضعٍ وترفّقٍ يُسهمان في بلورة برنامج إنقاذِ عاجلٍ على قاعدة توافقٍ واسعٍ يُفضي إلى علاج تشوّهات منظومة الحكم الحاليّة وإعادة الأمل الى النفوس وتهيئة أفضل المناخات للموعد الانتخابي القادم، لا العناد والإصرار والمُكابرة على استمرار الوضع الراهن الذي بات مليئا بالكثير من المحاذير والمخاوف، أليس فيهم حكيم؟