يحاول رئيس الدولة البحث عن خروج مشرف من المشهد السياسي لكنه لا يكاد يفتح بابا حتى ينغلق… الباجي لم يفقد الأمل بعد والدليل في كلمته الأخيرة التي قد تخلف النتيجة ذاتها لأن رجل السياسة فيه يتغلب على رجل الدولة: تونس الشروق: «كل عام وأنتم بخير» كان بإمكان رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي أن يكتفي بتهنئة التونسيين في كلمته التي توجه بها مؤخرا بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم، كان بإمكانه أن يرجو الأمن والرخاء لتونس وحتى أن يوسع رجاءه ليتمنى الخير للمسلمين كلهم لكنه لم يكتف بهذا بل خاض في مواضيع سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية لا توافق زاوية الحدث الضيقة: فهو تعرض في الناحية الاجتماعية إلى غلاء المعيشة وفقدان بعض المواد الأساسية وتتالي الفواجع… وتحدث في السياسة عن الحكومة والانتخابات وسبر الآراء وتأسيس الأحزاب وانقسامات بعضها… وتطرق إلى الظروف الاقتصادية الصعبة وإلى دقة الأوضاع الأمنية وإمكانية التأثر بما يدور في ليبيا من أحداث… ولم ينس مع هذا كله تحية المؤسستين العسكرية والأمنية على مجهوداتهما في المجالين الأمني زالمدني لكن ما الداعي إلى حشر هذه المواضيع كلها في مجال ضيق لا يتحمل أكثر من التهنئة بقدوم رمضان؟. رجل دولة؟ المبدأ أن الباجي محصن ضد الخرف، وعليه فمن المفترض أن يكون واعيا جدا بكل كلمة وكل إشارة وكل موضوع آثر الخوض فيه. في هذه الكلمة المطولة أراد السبسي أن يظهر صورة رجل الدولة الذي يفكر في مصلحة تونس دون أن يكون معنيا بالانتخابات كما يفعل رجل السياسة. فهو يعيد تأكيد موقفه السابق في عدم الترشح لولاية ثانية حتى لا يلقى مصير الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي ‹›قضى نصف حياته في السجون والمنافي وبعد 30 سنة من خدمة تونس كرئيس قضى مدة لا يستهان بها في نفس الأوضاع التي بدأ فيها››. الباجي غير معني برئاسة مدى الحياة ولا حتى بممارسة حقه الدستوري في ولاية ثانية لأنه رجل دولة وليس رجل سياسة حسب الصورة التي حاول تقديمها عن نفسه فالبلاد تزخر بالطاقات الشابة القادرة على القيادة لكن المشكلة أن رجل السياسة يتغلب على رجل الدولة في قايد السبسي: رجل سياسة يبدو تفوق رجل السياسة على رجل الدولة في عدة مستويات منها إحراج الحكومة ورئيسها تحديدا بدعوته إلى الوفاء بالتزامه في محاربة ارتفاع الأسعار والاحتكار وتوفير المواد الضرورية... فالمعلوم أن صلاحيات رئيس الجمهورية لا تتضمن التدخل في صلاحيات رئيس الحكومة بل إن الأول مدعو دستوريا إلى الاهتمام بالجانب الأمني في السياسة الداخلية والدبلوماسي في السياسة الخارجية دون غيرهما. السبسي خاض أيضا في الانتخابات وعمليات سبر الآراء وهي مواضيع تهم رجل السياسة أكثر من رجل الدولة المطالب بالحياد لما فيه مصلحة الدولة، كما رجل السياسة الذي تجول في الأسواق غداة الحملة الانتخابية الرئاسية الماضية تذكر مصاعب عامة الشعب وغلاء معيشتهم قبيل الانتخابات القادمة وتناساها عندما كان مطالبا بأن يكون رجل دولة طيلة العهدة الحالية الموشكة على الانقضاء. ولكن ألا يدل هذا كله على أن السبسي بوصفه رجل سياسة أكثر منه رجل دولة يفكر في الانتخابات القادمة ويقدم نفسه للمرحلة القادمة؟. «الخروج منها بشرف» ليس هناك في كلمة الباجي ولا في الخلاصة العامة لتصريحاته وتلميحاته السابقة ما يدل على أنه مهتم بالترشح للرئاسية القادمة فكل ما في الأمر أنه يريد خروجا مشرفا من المشهد السياسي يحفظ له «إنجازاته» ويخلده في جبة رجل الدولة أكثر منه رجل سياسة والأهم أنه يضمن له نهاية سياسية أفضل من نهاية قدوته الحبيب بورقيبة. بالنسبة لرئيس الدولة، «ليس شرطا أن يترشّح للإنتخابات كلّ من يمارس السياسة» على حد قوله في كلمته الأخيرة، والأهم أنّه «يتعيّن على من يتحملون المسؤولية التفكير في الخروج منها بشرف في التوقيت المناسب وترك المجال للشباب لخدمة تونس». هذا هو الوقت المناسب لخروج قايد السبسي بشرف، لا نظنه غافلا عما يدور حوله ولكن المشكلة في كيفية الخروج فكل باب يسعى إلى فتحه ينغلق تلقائيا جراء تغلب رجل السياسة فيه على رجل الدولة: الأمل في النهضة من المفترض أن يضمن حزب النداء لمؤسسه خروجا مشرفا عبر ربح الانتخابات وتتويجه رئيسا شرفيا للحزب وموجها لسياسة البلاد لكن تدخل الباجي السلبي في الحزب جعله يعيش أتعس أيامه جراء الخلاف الحاد بين شقي حافظ وطوبال. الباجي الذي تأكد من تردي أوضاع حزبه لجأ إلى «خصمه» الشاهد عله يسد الثغرات ويبسط الطريق أمامه ليخرج بشرف لكن جبة الباجي السياسي كانت سببا في عدم استجابة الشاهد لطلب العودة للنداء، حتى الأحزاب التي تفرخت عن النداء تخلت عن صاحب فكرة المشروع الندائي، بعد أن يئست من وقوفه إلى جانبها ضد ابنه حافظ. الطرف الوحيد الذي لم يتخل عن الباجي في أعسر أوقاته هو حركة النهضة فهناك على الأقل شق منها يدافع عنه بشراسة حتى لا تظهر حركته في صورة الحزب الذي يدمر كل من يتوافق معه لكنها لن تنفع الباجي إلا إذا حققت فوزا كاسحا في الانتخابات القادمة. المشكلة أن بعض شركات سبر الآراء تظهر انخفاضا حادا في شعبيتها ونوايا التصويت لها بما لا يرضيها ولا يرضي الباجي نفسه، لهذا نجد مبررا لانتقاده عمليات سبر الآراء واعتبارها سببا في «تعكير الوضع» السياسي قبل أن يدعو إلى «عدم أخذها مأخذ الجد» ففي فوز النهضة آخر أمل للباجي في «الخروج بشرف». «تونس ليست بخير» اعتبر رئيس الجمهورية في كلمته بمناسبة حلول شهر رمضان أنّه «لا يمكن القول إنّ تونس بخير» ورغم نزوعه إلى نوع من الموضوعية عبر القول إنه «يمكن إعتبار أنّها خرجت بأخفّ الضررين بالنظر إلى ما يجري في الجارة ليبيا والأوضاع الإقليمية عموما»، فإن هذا القول لا يمكن أن يصدر عن رجل الدولة المدعو إلى الرفع من منسوب الأمل لدى المواطنين. رجل الدولة هو الذي يعبر عن الوضع ذاته بعبارات أخرى عكسية مثل القول إن «تونس بخير ما دامت قد خرجت بأخف الأضرار…» في عبارات الباجي يغيب رجل الدولة ليحضر رجل السياسة الذي ينتقد خصومه (الحكومة وأحزابها) لكن المشكلة أنه جزء من منظومة الحكم وأنه يتحمل جزءا من الأسباب التي حالت دون أن تكون تونس بخير.