لم يكن بدر الدين ابن جماعة سوى واحد من الأعلام الأفذاذ الذين عرفهم تاريخ العلم، بل قل كان رأس أسرة ضمت نفراً من علماء العرب الذين بسطوا جناح المعرفة على مصر والشام، وكان كل واحد منهم يعرف باسم "ابن جماعة" تخليداً لذكرى العالم المعلم الذي قدمته مدينة حماة، وتأكيداً على أهمية الدور العلمي الذي قام به في عواصم الوطن العربي: دمشق، والقدس، والقاهرة. فمن هو عميد هذه الأسرة العلمية وماهي آثاره؟ كان الشيخ الإمام قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة يرى أنه في بركة الشيخ أبي الحسن الشاذلي في مصر، وكان يفتخر بصحبته.كما في كتاب المفاخر العلية. هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم الكناني الشافعي، وكنيته أبو عبد الله، ولقبه بدر الدين. ويعرف منسوباً إلى جده الرابع "جماعة"، وقد ذكر بدر الدين نسبه مفصلاً في آخر ورقة من ورقات كتابه "المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي"، مرفوعاً إلى قبيلة كنانة العربية. وقد انتدب ابن جماعة إلى القضاء والخطابة في القدسودمشقوالقاهرة، وبقي قاضياً للقضاة في مصر وحدها خمساً وعشرين سنة، ولما استغنى لم يأخذ على القضاء أجراً معلوماً، مقتدياً بشيخه تقي الدين ابن رزين الحموي. ويبدو أن أجمل أيامه في القضاء كانت في دمشقوالقدس، حيث كان بعيداً عن مركز السلطة، آمناً على دينه، سالماً من الكيد والحسد. وكثيراً ما كان القضاة يتعرضون للعزل والنقل بسبب وقوفهم إلى جانب الحق، وعدم استجابتهم لأهواء السلاطين. وقد أكسبته حياة القضاء الطويلة علماً لا ينضب معينه، وخبرة واسعة في دنيا الناس، وفهماً عميقاً لفنون الرواية والدراية، فانصرف يؤلف الكتب في قواعد الحكم والأحكام الفقهية، وفي أصول البحث والمناظرة والتربية. ولربما نظم الشطر ليزيح عن صدره معتلجاً أو وجداً منبعثاً.. حتى كف بصره، وثقل سمعه، فأعفى نفسه من القضاء، غير أنه لم ينقطع عن التدريس. وكان بيته المطل على نهر النيل موئلاً يقصده أهل العلم والأدب، فيسمعون ويتبركون، إلى أن وافاه الأجل سنة 733ه، عن عمر يناهز الرابعة والتسعين، ودفن بالقرافة في القاهرة، قريباً من الإمام الشافعي، وكانت جنازته حافلة هائلة.