إنّ الإصلاح الذي يرفع الأمة إلى منزلة تجلُّها القلوب، وتهابها العيون، وتجعلها في مأمن من أن تتداعى على أركانها، وتسقط إلى خمول واستكانة، هو الإصلاح الذي يرشد إليه الدين الحق، ذلك أنَّ الدين الحقَّ يسير بالناس على الطريقة الوسطى، فلا يأمر بما فيه حرج، كما يفعل بعض الدعاة المتنطعين، قال تعالى ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج 78) ولا يجاري أهواء الناس ابتغاء مرضاتهم، كما يفعل بعض الدعاة المتملِّقين، قال تعالى ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون 71). جاء الدّين الإسلامي فأصلح النفوس بالعقائد السليمة، وزوَّدها بالأخلاق الزاهرة، وشرع من العبادات ما يؤكِّد الصلة بين العبد وربِّه، ثم نظر إلى أنَّ الإنسان لم يُخلق ليعيش في عزلة عن الناس، وإنَّما خُلِق ليكون واحدا من جماعة، تتعاون على القيام بمرافق حياتها، والأخذ بوسائل سعادتها، فعُني بحقوق ذوي القربى، فقرَّر النفقات والمواريث في نظم محكمة، وحرَّض على إسعادهم، والبرِّ بهم من طرق المروءة وكرم الأخلاق. واحاط الزوجية بحقوق تجعل الزوجين في ألفة صادقة، وعيشة راضية، وأخذ بإصلاح رابطة الإيمان، ثم رابطة الإنسانية، ووضع للمعاملات المالية نظما عادلة، وللجنايات عقوبات زاجرة، فأصبحت النفوس والعقول والأعراض والأموال والأنساب بتلك النظم والعقوبات في صيانة. وتناول الإسلام إصلاح الغذاء فأذن في الطيبات من الرزق، وحرَّم أشياء لقذارتها، أو لأنَّها تلحق بالأبدان ضررا، أو بالعقول خللا، فترونه قد حرَّم أكل الميتة، وتناوُل السموم والمسكرات والمخدرات. ووضع الزينة بمكانتها اللائقة، فأذن فيها، وأنكر على من يتعمَّد اجتنابها بدعوى أنَّ اجتنابها من الورع والتقوى، ولكنَّه نهى عن الإسراف فيها، وأنذر الناس سوء عاقبة المسرفين. و شمل الإسلام بنظرته الإصلاحية ناحية السياسة الخارجية، واتَّجه فيها بين رفق وحزم، فأذن في الحرب متى كان الشرُّ في السلم، وأذن في السلم متى كان الشرُّ في الحرب، وقرَّر للحرب آدابا تخفِّف من ويلاتها، وتجعلُها كالدواء، لا يتجاوز به المقدار الذي يحصل به الشفاء، وأذن في عقد المعاهدات على وفق المصلحة العامة، وحثَّ على الوفاء بالعهد. وأرشد الدين إلى التسامح في معاملة المخالفين، غير المحاربين، تسامحا يُرضي الإنسانية دون أن يبخس حقّا، أو ينصر باطلا، قال تعالى﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8) ووجد الإسلام في الناس مزاعم شأنها أن تكدر صفو الفكر، أو تعوق عن كثير من الأعمال الفاضلة، فأماطها عن الطريق السويِّ، كالتشاؤم ببعض الأمور، والإخلاد إلى البطالة بدعوى التوكل أو الزهد، وزعْمِ الاطلاع على الغيب. ونظر إلى أشياء هي وسائل إلى رقيِّ الفكر البشري، أو وسائل إلى ازدهار العلوم على اختلاف موضوعاتها، فأدخلها في دائرة إصلاحه، كتحرير العقول من أسر التقليد، ودعوتها إلى الاعتماد على الحجة والدليل ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة 111) وكرفعه من شأن العلم، وحثِّه على طلبه، والسعي إلى تلقينه بقدر الطاقة ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر 9).