تحتفل تونس في 12 ماي من كل عام منذ سنة 1964 بذكرى الجلاء الزراعي واستقلال تونس فلاحيا بعودة ملكية كل الاراضي الى الدولة وهو ما اعتبر اهم خطوة على درب تكريس الاستقلال الحقيقي لان الفلاحة عماد الاقتصاد التونسي ووسيلته الاولى لتحقيق الثروة والترفيع في النمو وآليته للانفتاح على افاق ارحب عبر تطوير الصناعات الغذائية والسياحة البيئية فالفلاحة التونسية بحكم ثراء تربة بلادنا وتنوع نسيجها النباتي والغابي يمكن ان تشكل قاعدة صلبة لانطلاقة اقتصادية حقيقية .. فهل بعد 55 سنة تحققت اهداف الجلاء الزراعي؟ وهل كان الاجنبي نقمة على زراعتنا ام نعمة؟ هذه الاراضي، التي كانت خصبة للأسف في ما مضى، تحوّلت بمرور الزمن الى عبء على الدولة، ولم تعد قادرة على الانتاج وعلى مدّ الشعب بمستلزماته الغذائية. بل الأغرب أننا وصلنا في السنوات الاخيرة الى الاعتماد بشكل كلّي على التوريد في المواد الاساسية، وأصبحت أهم أساسيات الامن الغذائي غير متوفّرة، من حبوب وزيوت وسكريات وحتى خُضر وغلال ولحوم. وقد أشارت دراسات عديدة إلى عمق الأزمة الفلاحيّة في تونس، بدءا بتراجع المساحات المخصّصة لزراعة الحبوب وهي النشاط الفلاحي الأهمّ والأكبر في تونس من مليون و643 ألف هكتار سنة 2004 إلى مليون و100 ألف هكتار في سنة 2017، كما تراجعت مساهمة القطاع الفلاحي في الناتج المحليّ الإجمالي من 17% في تسعينيات القرن الماضي إلى 12 % فقط و11% من مجموع صادرات البلاد وفق احصائيات لاسمية صادرة عن سلطة الاشراف متمثلة في وزارة الفلاحة كما انخفض عدد العاملين في القطاع من 45 % إلى 16 % . أمام تراجع الفلاحة بمثل تلك الصورة عجزت تونس عن تحقيق اكتفائها الذاتيّ في العديد من المواد الغذائيّة حتى الضرورية منها، مثل الحبوب التي لا تتوفّر إلا بنسبة 50% من الاحتياجات المحلية، وتصل واردات البلاد من المواد الغذائيّة 1,2 مليار دولار سنوياً، وهو ما ساهم في استفحال الميزان التجاري، ولا شيء في الأفق يوحي بإمكانية تجاوز ذلك العجز لأن التفكير في توفير الحلول يكاد يكون منعدما في ظل عزوف الشبان عن العمل في الفلاحة وتراجع المساحات الزراعية والصعوبات التي يعاني منها الفلاحون واستفحال مديونيتهم ومعاناتهم عند الصابة وهو ما يجعل أمن تونس الغذائي محل خطر داهم. من الصعب جدا إيجاد التوصيف المناسب للفلاحة التونسية هل هي سقوية أم بعلية؟ لأنه حتى السقوي منها يعاني من شح كبير في المياه... إذ تعاني العديد من مناطق الوسط والجنوب الشرقيّ من اضطرابات على مستوى التوزيع والإمداد، وهو ما أثّر سلبا على الإنتاج الفلاحيّ السقويّ في تلك المناطق، ودفع بالعديد من الفلاحين إلى اعتماد الآبار الارتوازيّة كبديل، وهو ما يسبّب استنزافاً للمائدة المائية، ويهدّد بأزمة عطش مزمنة. من مشاكل الفلاحة أيضا ما يسميه الخبراء ب»الأميّة الفلاحيّة» إذ تبلغ نسبة الفلاحين غير المواكبين للتطورات التكنولوجية في القطاع 46٪، وهو ما يعني أن نسبة «عصرنة» الفلاحة التونسية ضعيفة مقارنة حتى ببلدان قريبة منا أو بلدان أوضاعها مشابهة لأوضاع بلادنا، وهو ما يحدّ من القدرة التنافسية لمنتجاتنا المعوّل عليها كثيرا في العملية التصديرية ..كما عرفت الفلاحة عملية «تنفير ممنهجة» للشبان من الاستثمار فيها وهو ما حكم على عديد الضيعات المنتعشة ب»التحلل» عند وفاة المالك وتفرق السبل بالورثة لتصبح معضلة عزوف الشبان المتزايد عن ممارسة الأنشطة الفلاحيّة اكبر خطر على مستقبل فلاحتنا يهدد استدامتها إذ يمثل الفلاحون الذين تجاوزوا 60 عاما نسبة 43٪، وهي مشكلة تبيّن تأثيرها المباشر على القطاع الفلاحيّ الذي صار يشكو من نقص اليد العاملة على المستوى الكميّ والنوعيّ. والغريب أن الدولة والهياكل المعنية لم تتحرك لمعالجة هذه المعضلة رغم التنامي الكبير لعدد العاطلين عن العمل الذين يمكن استيعاب عدد كبير جدا منهم في القطاع الفلاحي بعد تلقيهم للتكوين اللازم والتمويل الضروري، فتضرب الدولة بذلك عصفورين بحجر واحد، فتنزل نسبة البطالة بصورة ملحوظة، وتضخ دماء جديدة في الفلاحة تطور من أنشطتها وتضاعف من مردوديتها. أما اخطر الآفات المهددة للفلاحة في تونس فهي المديونية، والتي سببت تراجعا حادا في مردوديّتها لأن التكاليف في ارتفاع متواصل على مستوى اليد العاملة والأسمدة والتجهيزات الفلاحيّة والمحروقات التي ارتفعت أسعارها بشكل متسارع منذ سنة 2011، وهو ما قلّص من هامش الربح ودفع عديد الفلاحين إلى رمي المنديل والسعي إلى التخلص من أراضيهم وتغيير أنشطتهم بعد ان كبلتهم القروض. عادل الطياري