« أطير بجناح واحد» قالها الشابي في صورة شعريّة مجازيّة معبّرة عن أسفه وعجزه لجهله باللغة الفرنسيّة وإن وجد صديقه الحليوي معينا بما يعرّب له من روائع الشعر العالمي لينهل مباشرة من عيون الرومنطيقيّة. فماذا يقول المؤرّخ إذا قيّد علمه بحدود اختصاصه فجهل أو تجاهل الكثير من التاريخ ؟ وكيف يفهم الأحداث إن هو لم يضعها في إطارها وينظر إليها من زوايا مختلفة مستنيرا بمقاربات أخرى من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وحتّى من الآداب والفنون ؟ وماذا يقول الناقد الأدبي إذا اقتصر على الأدب ولم يتطلّع إلى التاريخ وعلم الاجتماع و لم يستعن بالنقائش والمخطوطات ومكتشفات الحفريّات ؟ ولنا بعض الأمثلة من الدراسات والرسائل الجامعيّة على علاقة التاريخ بالأدب شعرا ونثرا ، منها أطروحة الدكتور جمعة شيخة عن «الفتن والحروب وأثرها في الشعر الأندلسي» ( تونس 1994 – 1997) بتقديم مهمّ للدكتور محمد الطالبي ، رحمه الله. ثمّ ماذا سيضيف وماذا سيقول الأستاذ الجامعيّ وهو يلقي الدرس أو المحاضرة إذا ظلّ محدود المعرفة، قصير النظر، غير أن يكرّر نفسه ، أكاد أقول كالمجترّ ، فتجده يقلّب العنوان من مناسبة إلى أخرى للتوفير ، فيحاضر مرّة عن الحاج موسى وأخرى عن موسى الحاج ، كأن يعنون تارة ب «التصوّف في عصر ابن خلدون» وطورا ب «الحياة الروحيّة في العهد الحفصي» وطورا ب «النشاط الطرقي في القرن 8 ه / 14 م» موهما بأنّه مشارك في كتابة التاريخ التونسي ؟ ومثله الفنّان كالرسّام الذي لا يعرف إلاّ الرسم ، ولا تعنيه الفنون المجاورة ، وحتّى الرسم لا يعرف منه إلاّ رسومه هو ، ولا يلتفت إلى أعمال معاصريه ، والحال يقتضي منه الاطّلاع على تاريخ الفنّ بمذاهبه وأعلامه ، بل يقتضي أكثر من ذلك ، يقتضي الوعي بواقعه الثقافي والاجتماعي والسياسي ليجعل من فنّه محمل موقف ورسالة في إطار الالتزام الهادف – دون المساس بحرّية الإبداع – بدل موضة الفنّ للفنّ المفلسة. الثقافة العامّة ضروريّة للجميع، و تعدّد الاختصاصات و إن في نطاق فرق بحث شرط للإضافة و التقدّم. ومن رام الطيران لا يقدر عليه بجناح واحد، بل يحتاج إلى مثنى ... فما أحوجنا إذن إلى تكوين علمي شامل يقدّر التداخل بين الطبيعة و الاقتصاد والمجتمع والدين والثقافة لكشف النقاب عن جميع جوانب الظاهرة إجلاء للحقيقة ! وما أحوجنا أيضا إلى تكوين فنّي شامل يمدّ الجسور بين الرسم والنحت و المسرح والرقص و الموسيقى ! وبين العلوم و الفنون يتموقع الأدب موافقا تعريفه عند العرب بأنّه الأخذ من كلّ شيء بطرف. وقد توسّعنا في دراسته ثمّ في تدريسه فتواصلنا مع مختلف المجالات والمعارف والمهارات بلا حدود، لا في الزمان و لا في المكان. ومع ذلك نعترف بأنّنا ، بعد ستّين حجّة ، لم نؤت من العلم إلاّ قليلا. فبأيّ علم يفتخر أمثال من قال فيه أبو نوّاس : قل لمن يدّعي في العلم فلسفة : «حفظت شيئا وغابت عنك أشياء» فتعلّموا وتواضعوا ترحموا - يا أولي الألباب - إن كنتم تعقلون.