كان الرشيد قد تنازل للبرامكة عن كل سلطان، فَوَلِيَ جعفر الغرب كله من الأنبار إلى إفريقيَّة، وَقُلِّدَ الفضل المشرق كُلَّه من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وهما يُنيبان عنهما من أرادا والناس إذا رأت السلطان في يد توجهت إليها بالاستجداء والمديح والتملق، وكذلك كان شأن البرامكة. فكان الشعراء يقفون ببابهم أكثر من الشعراء الذين يقفون على باب الرشيد، وقد مُنِح البرامكة سماحةً وكرمًا، ووصفهم إبراهيم الموصلي فقال أما الفضل فيرضيك بفضله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد وكما أسَروا الناس بحُسْن صنيعهم أَسَرُوهم ببلاغتهم، ومأثور كلامهم، وحسن توقيعهم، حتى تناقلت كُتُبُ البلاغة عباراتهم. وقد فَكَّر الرشيد طويلًا في الإيقاع بهم؛ لِعِظَم مكانتهم، وخوْفه من الثورة عليه من أجْلهم، فكان مما احتاط أنْ يُشِيع بيْن الناس كُفْرَهم وزندقتهم، وأنهم يُظهرون الإسلام، ويُبطنون الكفر، وأنَّ عندهم بعض بقايا من الآثار الوثنية ونحو ذلك حتى تكرههم العامة، حتى إن يحيى بن خالد لما نُقِل من سجن إلى سجن، اعتدى عليه رجل، وأظهر له الاحتقار، فخاف يحيى أن يكون قد ظلمه، أو بَخِل عليه فبعث إليه من يسأله، فلما علم أنه يرميه بالزندقة اطمأن إلى ذلك؛ لأنه علم أنها دسيسة عليه، وبذلك وأمثاله أوجد الرشيد حول البرامكة جوٍّا مُسَمَّمًا. وربما كان من ذلك ما أشاعه عن علاقة جعفر بالعباسة، وَوَعْد جعفر للرشيد بأن لا يَقْرَبَهَا؛ لأنه إلى ذلك العهد كانت الغيرة فاشية في الناس، فلما نكل بهم الرشيد لم يَثُر الناس وقابلوا الأمر بالهدوء. ولولا نشاط الدعاية ضدهم لثار الناس على الرشيد، وكان يحيى البرمكي يَحْذَر هذه النتيجة، ويعمل على قَصْر سلطان جعفر؛ فقال للرشيد غيرَ مرة يا أمير المؤمنين، إنني أكره مداخل جعفر، ولست آمن أن ترجع العاقبة عليَّ في ذلك منك، فلو أعفيته، واقتصرت على ما يتولاه من جسيم أعمالك لكان أحب إلي، وأولى بتفضلك فلم يَقْبل الرشيد هذا وكثيرًا أيضًا ما كان يحيى يقول الحكيم من تَوَقَّع الشر ويقول لا أرحام بين الملوك وبين أحد خصوصًا وأنه علم أن الرشيد يُصغي إلى الفضل بن الربيع. وقد أحكم الرشيد فِعْلَتَه، ونشر الجواسيس يتجسسون على من يمدحون البرامكة، ويبكون عليهم، ويقطع رأس من بلغه شيء عنه، حتى خشي الناس، وأنكروا الصنيع. وأسُدلَ الستار على هذه القِتْلة الشنعاء. والخلاصة أن نكبة البرامكة كانت ناتجة عن غيرة الرشيد منهم، وحبه لاسترجاع سلطانهم وأموالهم فمما يروى ان يحيى البرمكي لما أحس من الرشيد تَغَيُّره عليه ركب إلى صديق له من الهاشميين، فشاوره في هذا الموقف، فقال له الهاشمي: إن أمير المؤمنين قد أحب جمع المال، وقد كثر ولده فأحب أنْ يَجْمَعَ لهم الضياع، فلو نظرت إلى ما في أيدي أصحابك من ضياع وأموال فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت بها إليه رجوتُ لك السلامة. فهذا يدل على أن من أكبر أسباب غضب الرشيد على البرامكة أيضًا حسده لهم وطمعه في أموالهم. وليس المال يقصد لذاته، وإنما يقصد للسلطان والعظمة فإذا طَمِع الرشيد في مالهم فطَمَعُه في سلطانهم أشد، خصوصًا وأن الرشيد قد كَبُر وفَهِم المسؤولية وقَدَر عليها، فأراد أن يزحزحهم عن سلطانهم، ويَحُلَّ محلهم. يتبع