لام كثيرون على هارون الرشيد تفريطه في بعض الولايات في اطراف مملكته وان من يمعن في منح الرشيد لبني الاغلب مثلا استقلالا ذاتيا على قاعدة اللامركزية يجد ان الخليفة اراد ان تكون ولاية افريقية حاجزا بينه وبين خليفة الاندلس الاموي وكان قصده التفرغ من مسائل افريقية الى مشاكله العظيمة في المشرق . فلو لم يكن الاغالبة على شيء من الاستقلال الذاتي ما تيسر لهم ان يقاتلوا الاباضية الخوارج واصحاب الدولة الرستمية بالجزائر ولا ان يقفوا بالمرصاد لبني ادريس بن عبد الله ملك طنجة في بلاد المغرب الاقصى ، ولا ان يفتحوا صقلية ومالطة وجزائر البحر ، ولا ان يعمروا ما فتحوا عمرانا لا يقل عن عمران الامويين في بلاد الاندلس . وليس من الحكمة في شيء ان يحارب الخليفة عدة حروب داخلية في ان واحد ولا ان يوزع قواه في اخضاع شعوب في الاماكن القاصية واذا سهل امرهم عليه فلن يسهل على اعقابه . وقد عاب كثيرون على الرشيد ولعه بحياة الترف وبعده على المسار الذي كان يسلكه جده المنصور باني دولة العباسيين وصانع مجدهم ، غير ان المنصف يدرك ان المقارنة بين الرجلين غير منصفة ، اذ كان المنصور يحكم ورائده سوء الظن ورغبته في اثبات ارادته وفرض افكاره وتنفيذ خططه وكان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ولم يكن منصب الوزارة في ايامه كبير القيمة لاستقلاله بالنفوذ وجمعه السلطات تحت يده وكان شغف المنصور بالعمل واقباله عليه من القوة والتفاني بحيث لم يترك شيئا لرجاله والعمل الذي يرى تركه لهم لا يخلو من مراقبته واذا قصروا في ادائه غالى في تقريعهم وايذائهم وبمقدار اعجابه بمظاهر قوة الاخلاق كان يسيئ الظن بالناس ، قليل الثقة بهم يعتقد انهم لا يتورعون عن الخيانة والنهب اذا واتتهم الظروف وسنحت لهم الفرصة . وهذه الطريقة على ما بها من عيوب واستئثار بالسلطة كانت تجعل الحكام يخافون مراجعته ويخشون بأسه وكان كل وال من الولاة يعتقد ان عين الخليفة اليقظة الساهرة تراقبه من بعيد وتحصي عليه حركاته وسكناته وتطلع على كل مظلمة وان مثل هذا الرجل لا تجدي عنده شفاعة الشفعاء ولا توسط الوسطاء وكان يجهد نفسه في الاطلاع على اتفه الامور واقلها قيمة وكان مستبدا وحاكما بامره في اعظم معاني هذه الكلمة ولم يكن المنصور مع ذلك يتمتع بصحة موفورة وبنية سليمة ولكنه كان كثير النشاط جم الحيوية حديد الاعصاب جلدا على العمل . اما الرشيد فقد كان قوي البنية شديد البأس ولكن اعصابه لم تكن لتحتمل الكد المرهق والمثابرة الملحة ، وقد ولي الخلافة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة وتوفي وهو ابن خمس واربعين وربما كان لافراطه في حب الاستمتاع بالحياة اثر في تعجيل وفاته في هذه السن المبكرة وقد كان نظام الحكم في عهد الرشيد اتم وارقى منه في عهد المنصور لتوفر وجود الادارات والوظائف والمناصب المقتبسة من سياسة الرومان والفرس . يتبع