يومها كانت القاهره كشأنها دائما في مراحل المدّ الوطني والقومي عاصمة لكل المناضلين العرب القادمين من كل ركن فيه، تفتح لهم ذراعيها وتحتضن قضاياهم وتحنو على آمالهم في أن ينتهي القهر والاستغلال والتبعية للأجنبي بأقطارهم وفي أن يصبح هذا الوطن الكبير الممتد من الأطلسي حتى الخليج دولة واحدة، ديمقراطية واشتراكية، يحيا في ظلها شعب واحد حرّ سعيد. ولقد مر معظمهم من هنا عرفتهم مقاهيها ونواديها، وفنادقها وساحاتها وشوارعها وأحياءها الجميلة، وهم أيضا قد عرفوها وأحبوها وتعلقوا بها وبناسها الطيبين، ساسة وقادة جيوش ورؤساء دول سابقين ولاحقين وكتاب ومفكرين وشعراء وفناني.ن لم تبخل عليهم المدينة العريقة برحيقها العذب وهم لم يبخلوا عليها كذلك بعطر الوفاء. وعندما سوف يعودون يوما إلى أقطارهم ستظل ذكريات الأيام التي قضوها على ضفاف النيل، حية على الدوام في أعماقهم.. لقد عاش صدام حسين ثلاث سنوات وبضعة شهور من عمره في القاهرة وجاب مصر كلها من شمالها إلى جنوبها. من الإسكندرية حتى الأقصر وأسوان. كان حينذاك في بداية قدومه إليها في الثالثة والعشرين من عمره، شاب طويل نحيل وسيم الطلعة مهندم الثياب يملك عينين نفاذتين مثل بلورتين من الماس، تشعان ذكاء ويقظة. ولم تكن ظروفه في العراق قد أتاحت له أن يتم دراسته الثانوية فالتحق بمدرسة قصر النيل الخاصة بالصف الخامس حتى يحصل على الشهادة التوجيهية. وسكن مع عدد من رفاقه المناضلين والهاربين من أحكام الإعدام مثله – في فيلا استأجروها جميعا في حي ((الدقي)) وبدأ صدام، فصلا جديدا من حياته. لم يكن مثل بعض أترابه الذين يتركون أقدامهم تسحبها دوامات المدينة اللاهية بكل تحتويه من أفانين المتعة الشخصية وفنونها. كان في معظم أحواله جادّا إلى حد الصرامة، مهموما إلى درجة الحزن منشغلا بدروسه تارة وبالتحولات السياسية تارة أخرى، إلى المدى الذي كان يدفعه إلى اأن يمضي وحيدا ليجلس في «كازينو قصر النيل» يتأمل مياه النهر، وهي تجري أمامه بغير انقطاع أو يسلك طريقه إلى إحدى الحدائق العامة يجوس بين أشجارها ويقضي ساعة أو ساعتين تحت ظلالها، ثم يعود إلى بيته، ليتابع وقائع حياته اليومية مثل عقارب الساعة. المتعة الوحيدة التي كان يتذوقها غير القراءة والتجوال في حدائق المدينة والترحال إلى مواطن الآثار المصرية القديمة، كانت لعبة الشطرنج وربما لا يثير الغرابة أن نتذكر الآن أنّه كان لاعبا ماهرا ذلك لأن تاريخ هذه اللعبة – يحفظ أسماء عدد كبير من القادة في الشرق والغرب كان من بينهم جمال عبد الناصر – برعوا في تحريك «قواتهم» على الرقعة الصغيرة وكأنهم يتدربون على تحريكها فيما بعد في ساحات الحروب والمعارك. وفيما عدا ذلك كان صدام يخلو إلى نفسه بين الحين والآخر ليكتب بضعة أسطر مع مسافر إلى العراق إلى عمه الحاج إبراهيم وأمه أو إلى خاله الحاج خير الله طلفاح، أو إلى واحد أو آخر من إخوته. بعد مدّة من ذهابه إلى القاهرة بعث برسالة إلى عمه يقول له فيها، إنه يريد أن يتزوج وإن اختياره وقع على ابنة خاله: ساجدة خير الله طلفاح. وعندما وصلت الرسالة إلى الحاج إبراهيم وعرف فحواها قال «والله زين ما فعل الولد». فالزواج عند كل الأسر المحافظة في بلادنا كلها وخصوصا الزواج المبكر، هو الحامي من شر الغواية والعاصم ضد الفتن. حمل الحاج إبراهيم الرسالة في جيبه وتوجه – بعد الاتكال على الله – إلى بيت الحاج خير الله، وطلب منه يد ابنته واستجاب الخال على الفور وقال إن شاء الله عندما يعود إلى وطنه العراق سوف يتزوجان. أما الآن فهي خطيبته الموهوبة لاسمه. يتبع