تؤكّد التطورات والأحداث ارتهان جزء مهم من الحراك السياسي في بلادنا، منذ الثورة الى اليوم، إلى ملف العلاقة مع حركة النهضة، إلى الدرجة التي اعتبر فيها بعض المتابعين أنّ أوضاع البلاد لن تستقيم إلاّ لمّا يتمّ الانتهاء من المقولات الإقصائية التي يتداولها بعض الفاعلين السياسيّين وعلى رأسها تلك الموجهة الى النهضة. لا يزال جزء من سياسيّينا يعتبر أنّ إقصاء النهضة هو الحل المتوفّر ودائما لكي تتجاوز البلاد أزماتها. لذا يجعلون من ذلك الأمر شعارا لخطاباتهم وحملاتهم الانتخابيّة والاشهاريّة معوّلين على ظرف دقيق وصعب تعيشه البلاد وهادفين إلى تحريك عواطف الناس ومشاعرهم. وفي الحقيقة، فإنّ مسألة النهضة هذه على غاية من الجاذبيّة. اذ بالرغم ممّا يلاحقها من خصومها من اتهامات وشيطنة وتشويه وتحميلها كل المساوئ والأخطاء والمظاهر السلبيّة التي تحصل في بلادنا، فالنهضة باقية في صدارة الحياة الوطنية متماسكة في هياكلها، ماسكة بجزء مهم من إدارة شؤون الدولة. وهي أيضا تتمتع بحظوة دولية وإقليميّة لافتة للنظر. والسؤال لماذا تواصل بعض القوى والأحزاب في بلادنا عداء النهضة؟ في الانتخابات السابقة، وخاصة تلك التي التأمت سنة 2014، كان شعار الضديّة والعداء للنهضة ناجحا في تحقيق فوز انتخابي للسبسي ونداء تونس على قاعدة التصويت المفيد. ولكن هل مازال نفس الشعار صالحا الآن؟ وظهر لاحقا أنّ الكيان الذي تمّت صناعته للاطاحة بالنهضة، كيان هش لم يستطع أن يحافظ على تماسكه كما يجب لأنّه أوضح منذ الأشهر التي تلت الانتخابات أنّ ورقة معاداة النهضة ليست إلاّ تكتيكا استثمر أزمة سياسية أعقبت اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي وموجة العداء للثورات العربيّة وعودة حكم العسكر في بعض دول المنطقة. خصوم النهضة، يبدو أنّهم في حاجة أكيدة إلى مراجعة أجندة عملهم، خاصة مع اقتراب المواعيد الانتخابية المقررة في الثلاثي الأخير من هذه السنة. وهم يحتاجون على وجه الخصوص، الى تناسي مسألة الإقصاء، سواء إقصاء الاسلاميين أو غيرهم، والبحث عن مسالك لتأمين نجاحهم الانتخابي بروح مسؤولة وبالكثير من الجديّة، بعيدا عن لوك الاتهامات الجاهزة وتوظيف القضايا المعروضة على القضاء ومحاولة تلبيس خصومهم كلّ صنوف الردّة والخيبة والخسران والسعي الى تأليب الرأي العام عليهم بالكذب والزيف والخداع. بلادنا في حاجة إلى المنافسة الفكريّة والسياسيّة العميقة. بل هي ربّما أبطأت في ذلك كثيرا. فالجدل العقلي والواقعي بعيدا عن مظاهر الفوضى الكلاميّة من لغو وحشو وسفسطة وأحكام مسبقة، هو المنفذ الحقيقي لإخراج بلادنا من الأزمة الخانقة التي تعيشها. ورغم ما مرّت به بلادنا من صعوبات منذ الثورة، فإنّ مكسب الحريّة والديمقراطية مكسب حضاري مهم جدا جنّبنا التقاتل والتطاحن. ووفّر لنا فرصا نادرة للعيش المشترك في إطار التنوّع والاختلاف. وأنهى بيننا معضلة الصراع على السلطة بإقرار مبدإ التداول السلمي على إدارتها بقواعد الانتخاب والأغلبيات البرلمانيّة. وبفضل ذلك فإنّ كلّ الخصومات مقبولة تحت يافطة الاختلاف والرأي والرأي الأخر. ولا جدوى مطلقا من استعادة شعارات الكراهية أو استحثاث نوايا الاستهداف والاقصاء لهذا الطرف أو ذاك. فالنهضة أثبتت أنّها مكوّن مهم اليوم في المشهد الوطني، إن لم تكن المكوّن الثابت الأبرز. والإقصاء الوحيد الممكن والمقبول هو صندوق الاقتراع ولا شيء آخر دون ذلك.