تونس (الشروق) لم يسبق للعلاقة الاتصالية بين الدولة والمواطن ان عاشت تقلبات على درجة من الخطورة كالتي تعيشها اليوم. إذ لم تعد البلاغات والتوضيحات الرسمية لمختلف هياكل الدولة محل ثقة من الرأي العام. في الأشهر الأخيرة تعددت مظاهر انهيار جدار الثقة بين المواطن ومختلف هياكل الدولة وزادت حدّتها في الآونة الأخيرة خاصة مع تعدد مختلف مظاهر الفوضى وحالة شبه الانفلات التي تعيش على وقعها البلاد في عديد المجالات. إحراج الدولة هذه الظاهرة تأكدت بالخصوص من خلال بعض الأخبار التي يقع تداولها لدى الراي العام فتكذبها هياكل الدولة بشكل رسمي لكن مع ذلك لا يصدق المواطن الرواية الرسمية. وتكون البداية عادة بخبر يقع تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي أو يأتي في سياق تصريح اعلامي لأحد السياسيين أو غيره أو في سياق مداخلة لنائب بالبرلمان أو من خلال خبر على صفحات الجرائد. وبعد ذلك تسارع الجهات الرسمية أو الأطراف المعنية بالخبر إلى نفيه وتقديم توضيحات حوله. لكن في المقابل لا يُصدق المواطن ذلك بسهولة وأكثر من ذلك يسعى البعض إلى تقديم مزيد المؤيدات التي تؤكد صحته، وهو ما يضع عادة الجهات الرسمية ومن ورائها الدولة في موقف محرج. تكذيب الروايات الرسمية في الآونة الاخيرة عاش التونسيون على وقع هذه الظاهرة أكثر من مرة. ويمكن في هذا المجال استحضار حادثة وفاة الرضع بمستشفى الرابطة التي مازال المواطن إلى اليوم يرفض الرواية الرسمية التي قدمتها وزارة الصحة.وهو ما ينطبق أيضا على حادثة الاعتداء الأخيرة على مقهى بجهة رادس التي وضحتها وزارة الداخلية بالقول إنها ليست اعتداء محسوبا على مجموعة سلفية لكن رغم ذلك رفض شق واسع من الراي العام بشدة رواية الداخلية ومازال إلى اليوم يتمسك بالرواية الاصلية. وهو ما حصل أيضا طوال شهر رمضان عندما أكدت الجهات الرسمية ان الأسعار انخفضت بشكل ملحوظ وأن المواد المدعمة متوفرة بالشكل الكافي وأن المخالفات الاقتصادية وقع ردعها. لكن في الجهة المقابلة لم يصدق الرأي العام ذلك بسهولة وأصبح في كل مرة يقدم دليلا يكذب رواية الدولة ويؤكد تواصل ارتفاع الاسعار وتواصل غياب المواد المدعمة والتلاعب بها وايضا تواصل المخالفات الاقتصادية بشكل يومي. ويمكن أيضا استحضار ما حصل الاسبوع الماضي عندما ظهرت إشاعة اضراب محطات الوقود ونفتها الجهات الرسمية فورا لكن رغم ذلك لم يصدق المواطن النفي الرسمي وواصل التهافت على التزود بالوقود طيلة يومين وهو ما أحدث حالة من الفوضى والبلبلة لدى الراي العام. حرب الفساد من الأمثلة البارزة عن تقلب العلاقة التواصلية بين الدولة والراي العام ما يقع كشفه بين الحين والآخر عن طريق سياسيين او منظمات من المجتمع المدني او مواطنين حول وجود شبهات فساد في وزارة أو في هيكل عمومي فتسارع الجهات الرسمية لنفي الخبر وتقدم أحيانا مؤيدات لكن مع ذلك لا يصدقها الرأي العام بسهولة وأحيانا يتضح أن ما وقع كشفه من فساد صحيح خاصة بعد تقديم مزيد من المؤيدات الداعمة لذلك وأن الجهات الرسمية حاولت تضليل الراي العام. وعلى صعيد آخر، لم يعد المواطن يصدق ايضا بسهولة ما تقوله الحكومة حول الحرب على الفساد، رغم أنها تقدم أحيانا بعض المؤيدات حول إيقاف فاسدين وإيداعهم السجن، وبلغ الامر بكثيرين حدّ القول إلى اليوم إن هذه الحرب شكلية وانتقائية وتقف وراءها حسابات سياسية. تشكيك في النوايا هذا التشكيك في "روايات" الدولة وفي توضيحاتها الرسمية بلغ مداه المجال السياسي خاصة في المدة الاخيرة التي كثرت فيها التقلبات والمناورات والصراعات السياسية، حيث أصبح المواطن يشكك عادة في نوايا السياسيين وفي تحركاتهم المختلفة. ولم يسلم سياسيو المنظومة الحاكمة من هذا التشكيك في النوايا حيث أصبح المواطن فاقدا الثقة فيهم ولا يصدق بسهولة ما يقوله بعضهم حول عدم اهتمامهم بالصراعات السياسية وبكراسي السلطة وانشغالهم فقط ب"خدمة المصلحة الوطنية" أو ب" انقاذ البلاد". يرى المختصون والمراقبون أن من ابرز أسباب انهيار جدار الثقة بين المواطن والدولة هو غياب سياسة اتصالية رسمية واضحة وصريحة وشفافة لدى السلطات الرسمية. وما زاد الطين بلة هو التناقض الصارخ أحيانا في تصريحات المسؤولين وتعدد رواياتهم حول الموضوع نفسه فضلا عن رفض بعض الجهات مدّ وسائل الاعلام والراي العام بالرواية الحقيقية وبالمؤيدات التي تثبت صحة ما قد يحصل من أحداث في مختلف المجالات بما في ذلك المجالات الحساسة.. لا مجال للتضليل ولإخفاء الحقيقة منذ 2011 يسود في تونس مناخ كبير من حرية التعبير سواء في وسائل الاعلام او عبر مواقع التواصل الاجتماعي فضلا عن تنامي نشاط الفاعلين السياسيين أو في المجتمع المدني وتطور قدراتهم على الوصول إلى الحقائق المخفية وعلى كشف مختلف الملفات المشبوهة. وبالتالي لم يعد هناك أي مجال أمام الجهات الرسمية لاخفاء الحقائق او لمحاولة تضليل الرأي العام أو لتكذيب أخبار تكون ثابتة بالصورة وبالصوت وبعديد المؤيدات الاخرى. وهو ما يجب أن تأخذه مختلف هياكل الدولة بعين الاعتبار لتقول الحقيقة بكل شفافية وصراحة حول ما يحصل من أحداث، وبذلك تتجنب الوقوع في الاحراج وتؤكد للرأي العام صدق نواياها وتكسب ثقته فيها. أما إذا تواصل الامر على هذا النحو من حرب "التكذيب والتكذيب المضاد" فان الأمر قد يتفاقم نحو الأسوأ وينهار ما بقي من جدار الثقة بين الدولة والمواطن وهو ما سيزيد حتما من حالة الفوضى والانفلات ومن ظاهرة عدم احترام هيبة الدولة وهيبة القانون.