كنت قريبا من الإذاعة عبر مجلّتها منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي. وبعد عقدين وجدتني منتجا لإذاعة الكاف منذ سنتها الأولى بفضل مديرها السيّد محمد صميدة ومن تلاه . ولكنّ الظروف الطارئة ومنها البعد قطعت الصلة لأكثر من عقد حتّى جمعتني الصدفة بلقاءين متزامنين تقريبا، أحدهما مع السيّد محمد رؤوف يعيش مكّنني من المشاركة في الإذاعة الوطنيّة، والآخر مع السيّد سفيان العرفاوي فتح لي باب الإذاعة الثقافية . كانت مساهماتي مركّزة على المدن والأعلام والكتب ومسجّلة بصوت مراد البجاوي أو هالة التوايتي . ثمّ توقّف كلّ شيء من دون إشعار ومن غير معرفة السبب إلى اليوم. فأنا الآن ومنذ سنوات مجرّد مستمع أتخيّر من هنا وهناك ما يصلح للمتعة والإفادة دون تفضيل إذاعة على أخرى لغلبة التشابه على التميّز . وأستثني من خضمّ البرامج اثنين أو ثلاثة على أقصى تقدير، مع احترامي لأذواق المستمعين واجتهاد المنتجين والمبرمجين . وعلى سبيل المثال أتابع أحيانا « ذاكرة الخضراء « لمعلومات خير الدين العنّابي التاريخيّة، ومقهى الثقافيّة «لتنوّع الفقرات، كما أنصت بانتظام لبرنامج « ثقافتنا في مفترق الطرق» . وأترحّم على المكّي كربول بعد سهرات مع ضيوفه، وقد كنت أحدهم لحصّتين مثلما كنت مع الأخ سفيان في « المقهى « ومع الدكتور نبيل خلدون قريسة لحصّتين في « ... مفترق الطرق « . هذه برامج على الأقلّ ذات مستوى في نظري وأمثالي ذوي العلاقة بالكتاب بحثا وإبداعا . برامج تطرح القضايا وتشخّص الأسباب والعلل وتقترح الحلول والرؤى، وكلّها من صميم واقعنا ومشاغلنا ومشاكلنا في درب حيرتنا . البرامج الأخرى، ولو كانت هي أيضا ثقافيّة، أحتقرها لسخافتها، أو أستثقلها لتعقّدها وتشوّشها، أو أخشاها للغوها ولحنها، خاصّة منها الحواريّة المتقعّرة على وزن « زيد الماء، زيد الدقيق» . وأترحّم على عبد العزيز العروي في إشارته إلى الزرّ الفاصل بيننا لتغيير الموجة أو لغلق المذياع ، « وكفى الله المؤمنين شرّ القتال « . وفي الخزينة الصوتيّة، قبل الأنترنات، تسجيلات لحكايات « بابا عزيز» المشوّقة بدارجتنا الجميلة، ومثلها لتمثيليّات مختلفة هادفة، وأخرى لروائع تلاوة القرآن الكريم، وغيرها لمسامرات الكبار بقيمة المؤرّخ سليمان مصطفى زبيس والأديب محمد العروسي المطوي والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، وغيرها لطه حسين وميخائيل نعيمة ممّا كان يتخيّر منها رؤوف يعيش محاضرات لرمضان كما كان. أمّا الآن فلا شيء عدا ما ذكرت يستحقّ الذكر والرجعة ممّا قاسمه المشترك « عندكش ؟ عندي .... « . ذاك رأيي كمستمع يعمل بنصيحة العروي، ولكنّ موقفي كمقّف ملتزم بالوطن والمجتمع لا يمكن أن يكون أو يظلّ سلبيّا كموقف المتفرّج، إنّه موقف الواجب والمسؤوليّة بما يقتضيه على الأقلّ من التدخّل ولو بإبداء الرأي تطويرا لهذا المرفق العام وخدمة للصالح العام في هذه المرحلة الحرجة . ورأيي يدعو إلى تكوين لجنة كفاءات مختارة من أعلام الإعلام والثقافة لتقييم الراهن وتصوّر الممكن في إطار استراتيجيّة توضّح الرؤية وتنير الطريق بجعل الإعلام بأنواعه واختلاف وسائله مواكبا لتطوّر المجتمع، بل عجلة أماميّة تقود المسيرة إلى الهدف المرسوم . وهل من هدف غير أن يتجذّر مجتمعنا في مبادئه وهويّته ويتفتّح على ثقافة الغير وفق مبدإ الحوار البنّاء والتفاعل المتكافئ دون اعتراب أو اغتراب، أي دون انغلاق أو استلاب، ودون تطرّف أو عداء؟ أليس هكذا يتحقّق التوافق والتكامل بين وزارات وقطاعات تشمل الإعلام والثقافة والتعليم والشباب وحتّى الشؤون الدينيّة والتنمية الاقتصاديّة، لأنّ الرؤية تتضمّن منظومة كاملة، وليست شعارات حالمة ووعودا عابرة لبرامج انتخابيّة ظرفيّة سرعان ما تذروها الرياح إذ هي كالزبد يذهب جفاء، ولا شيء منها ينفع الناس فيمكث في الأرض.