يُخطئ من يعتقد أنّ ما يجري بين «الرفاق» في الجبهة الشعبيّة هذه الأيّام شأن خاص بهم لوحدهم، فشأن الجبهة شأن وطني، ومؤشّرات ذلك كثيرة منها أساسا أنّ الأزمة الأخيرة أضحت قضيّة رأي عام بأتمّ معنى الكلمة يتداول أخبارها وتفاعلاتها ومستجدّاتها الجميع دون استثناء. ذلك أنّ الجبهة الشعبية تبقى دونما شكّ التوليفة السياسيّة والتنظيميّة الأكثر تمثيلا اليوم لليسار التونسي، إذ عكس تأسيسها مباشرة إثر الثورة وعيا لدى نخبة اليسار بتفرعاته الرئيسيّة، الماركسية والقومية والبعثية، بضرورة تجاوز واقع التشتّت والذهاب الى إئتلاف وازن يُمكّن من امتلاك قوّة التأثير في الحياة الوطنيّة ولعب أدوار مهمّة في السياق التونسي الجديد. إنّ البعض من خصوم الجبهة الذين ابتهجوا لحالها الراهن، هم في حقيقة الأمر اصحاب أفق تفكير محدود وتسكنهم الهواجس العقائديّة والإيديولوجيّة المحنّطة، فلا فرح لاهتزاز مكوّن سياسي وحزبي، مهما كان، ناهيك عن أن يكون ذلك المكوّن أصيلا في الحياة التونسيّة منذ عقود طويلة، قدّم تضحيات وأثرى مسيرة النضال ضدّ الدكتاتورية والاستبداد وكانت له إسهامات في مرحلة الثورة وما بعدها ولا تزال بلادنا في حاجة إليه حاضرا ومستقبلا. بدءا من الحزب الشيوعي التونسي ما قبل الاستقلال، إلى تجارب مختلف المجموعات ذات المنحى اليساري، المناهض للإمبريالية والليبرالية المتوحّشة والمدافع عن الفئات الضعيفة والمهمّشة، كلّها تجارب في داخلها حصاد يحتاج جزء هام منه الى التثمين ودفعه إلى مراكمات مستقبليّة واعدة بعيدا عن نوازع الهدم والتخريب والابتهاج الايديولوجي الكاذب والمخادع. تبقى تجربة الجبهة الشعبيّة لا ريب عرضة لمزالق وانحرافات وأخطاء، وهذا أمر يهمّ سائر التجارب السياسيّة، ناهيك عن أنّ رموزا يساريّة من غالبيّة مكوّنات الجبهة كانت حاضرة بقوّة، بل موجّهة لمحطات بارزة في سياق الثورة، من ذلك اعتصامات القصبة بداية سنة 2011 والدفع نحو حل حزب التجمّع والدفع أيضا نحو التأسيس بديلا عن تنقيح دستور 1959، ولاحقا كانت الجبهة الشعبية أبرز مكوّنات المعارضة لحكم الترويكا، قبل أن تُصبح بعد انتخابات 2014 صاحبة الكتلة البرلمانية المعارضة الأبرز. لربّما حان الوقت الآن أن تتخفّف الجبهة من بعض الأدران والأوساخ وأن تكون أزمتها الحالية مدخلا لإنجاز المراجعات الضروريّة واللازمة بعد تجربة السنوات الماضية بما سيمكّنها من استجماع عناصر انطلاق جديدة أكثر ثباتا وصوابا والعودة إلى الساحة بأكثر صلابة وقوّة. إنّ ما يجري داخل الجبهة الشعبيّة شأن وطني صميم، ومن مهام مختلف المؤثرين في مسيرة الجبهة وأيضا الفاعلين في المشهد الوطني، فكريّا وسياسيّا، أن يُساعدوا على إدارة حوارات معمّقة وجديّة لكي تتخطّى الجبهة وضعها الصعب وتنفتح أمامها مجالات أخرى للفعل الإيجابي ومراكمة مساهمات مجديّة ونافعة لتنمية البلاد ونهضتها وتقدّمها. تماما مثل حاجتها، لسائر التيارات الدستوريّة والإسلاميّة والليبراليّة والوسطيّة، فإنّ بلادنا تحتاج ضرورة إلى المكوّن اليساري الذي تمثّله اليوم الجبهة أفضل تمثيل هيكليا وتنظيميا وامتدادا شعبيا.