«الشروق» تونس: فيما لا يتجاوز «سميق» تونس واحدا على عشرة من نظيره الفرنسي يجبر المواطن التونسي على دفع تعريفة طبية تضاهي ما يدفعه المواطن في فرنسا حيث لا تتعدى تعريفة الطبيب 28 يورو. وبالنتيجة فإن هذا الترفيع الجديد في التعريفات الطبية الرابع من نوعه في ظرف أقل من عشرة أعوام أخرج قرار مجلس عمادة الأطباء من حلبة النهم المالي الى التعدي الصارخ على أحد الحقوق الأساسية التي كرسها الاعلان العالمي لحقوق الانسان ودستور تونس بنسختيه القديمة والجديدة وهو «الحق في العلاج». ولعل مجلس عمادة الأطباء لا يعلم انه بهذه الزيادة الجديدة التي بلغت ضعف سابقاتها فإن تعريفة العيادة الطبية أصبحت تعادل أجرة مدير عام باحتساب ما يتقاضاه من امتيازات عينية فكيف سيجد العامل البسيط والسيدة التي تشتغل في البيوت ما يكفي من مدخرات مالية لإيقاف آلام الابن او البنت او أحد الوالدين حين تداهمها دون سابق ميعاد؟ وبالنتيجة فإن هذا الاسراف من قبل الأطباء وما يقابله من انسداد للأفق امام المواطن البسيط في المستشفيات العمومية التي تفتقر الى خط أمامي قوي سيؤديان حتما على اخراج جحافل من الناس من دائرة الحق في العلاج... وتتدرج البلاد تبعا لذلك الى منظومة صحية تكرّس عدالة اجتماعية صورية ولا تختلف في توحشها عن الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث يعيش 50 مليون شخص خارج مظلة التغطية الصحية. صحيح ان بعض الاختصاصات الطبية تحصل على أجور خيالية مقارنة بتونس في عدة أنحاء من العالم منها الخليج العربي وأوروبا ولكن تجاوز القدرات الحقيقية لتونس من قبل كل مكونات المجتمع بما في ذلك الأطباء يصبح ضربا من العبث يهدد حتى بضرب قيم الاعتدال والتضامن التي قام عليها المشروع المجتمعي التونسي الذي كان ثمرة نضال مرير ساهمت فيه كل القوى بما في ذلك الأطباء الذين كانوا على رأس معركة الخروج من التخلف ثم بناء المجتمع المعاصر. انقلاب المفاهيم ثم انه في خضم هذه الزيادات المتتالية هل بمقدور الدولة ان تمنح الاطباء الاستشفائيين الجامعيين اضعاف ما يتقاضونه اليوم من رواتب وهم الذين جابهوا على الصعاب دون ان يفرضوا في إيمانهم بقدسية العلاج حيث ان أغلبهم يثابرون في الليل والنهار لتشغيل الأقسام الاستشفائية العمومية. ثم ان السؤال المطروح في كل هذا هو أين الدولة في خضم انقلاب المفاهيم الذي كرسته عمادة الاطباء حيث يقوم كل العالم على مبدإ «من يدفع يحكم» الا تونس وذلك على خلفية ان القسط الأكبر من «سوق الصحة» ان صح التعبير متأت من أموال المضمونين الاجتماعيين عبر الكنام وهو ما يفرض ان يكون تحديد تعريفات الاطباء من صميم مسؤوليات هذا الصندوق على غرار ما هو معمول به في سائر دول العالم ومنها فرنسا. وبالنتيجة فإن هذه المفارقة التي كرستها عمادة الاطباء هي احدى تمظهرات سياسة «سيّب الماء على البطيخ» التي تنتهجها الدولة وذلك من خلال مواصلة الاعتماد على التعاقد الجماعي في علاقة الكنام بمسدي الخدمات الصحية بدل التعاقد الفردي الذي يمنح الصندوق سلطته الكاملة على تحديد التعريفات. ولعل عمادة الاطباء لا تعلم ان الثروة المتاحة لهم وقوامها 2300 مليون دينار كل عام متأتية من عرق المضمون الاجتماعي الذي يحتاج الى معاملة بالمثل ... من خلال ملاءمة تعريفات العلاج مع قدراته الحقيقية.