كثيرا ما نكيل بالنقد طبيعة العلاقات بين المبدعين والمثقفين في الفضاء الثقافي العربي وكيف أن الغيرة وعدم الاعتراف يسوسان هذه العلاقات ويتحكمان فيها. لذلك ظهرت أمثال عربية كثيرة تعبر عن انعدام ثقافة الاعتراف والشكر في حياة المبدع حيث إننا ثقافة لا تمارس الاعتراف إلا مع الأموات من خلال الرثاء وحسن التأبين في حين أن غالبية المبدعين قلما يظفرون بحركة تقدير وامتنان واعتراف بالدور والقيمة وهم أحياء يرزقون الشيء الذي جعل كثيرون يشعرون بالغبن والسخط وبالجحود. هذا بشكل عام وما هو سائد. غير أن الاستثناء حصل ومازال يحصل مع الشاعر الأردني المعروف أمجد ناصر إذ أنه منذ أن نشر في حسابه على الفايسبوك ما يشبه الرثاء الذاتي بعد أن أخبره طبيبه بفشل علاج مرضه العضال، حتى رأينا تكاتفا مذهلا ودعما مفرحا من شعراء وكتاب يتهافتون في نصوص الاعتراف الجارف لأمجد ناصر بقيمته الشعرية ناهيك عن مناصرة له للتغلب على الألم وصعوبة العلم بقرب الرحيل بالحب والتكريم وتثمين خصاله ومزاياه...وأغلب الظن أن في الحبّ وفي الكتابة الجماعية لجداريته عزاء كبير له في محنته مع المرض. طبعا من المهم أن أشير إلى أن الشاعر أمجد ناصر يكتب الشعر منذ أربعين عاما وهو من الشعراء الكبار الذين عاشوا بين الشمس والظل كثيرا وها أن الشمس قررت البزوغ بشكل مميز وفريد كدعم منها لأمجد ناصر في قهر الألم وتناسيه بالألفة والأنس الرمزيين. بل لكأن المرض أراد أن يعوض الشاعر الضجيج الذي افتقده حيث ظلمت الصحافة الشاعر فيه. وبقدر ما كان أمجد ناصر شاعرا مميزا في مناخاته ولغته وقدرته الفائقة على تطوير نصه والانخراط بقوة وعمق ودراية في شعاب الحداثة الشعرية والأفق الشعري المفتوح فإن عمله في الصحافة الثقافية منذ عام 1989 في جريدة القدس العربي وانهماكه في العمل الصحفي اليومي الذي لا ينتهي قد جعله لا يحتفي بالشاعر كما يجب وكما يليق بمنجزه الشعري. يمكن القول إن الصحفي أمجد ناصر ظلم أمجد ناصر الشاعر وذلك بالانشغال الدائم بالصحافة الثقافية في جريدة يومية وأيضا لأنه كان يرفض نشر أي نقد حول دواوينه في جريدته كي لا يتهم باستغلال المنبر الإعلامي لتسويق اسمه وتجربته والحال أن العشرات لم يستطيعوا ظلم الشاعر فيهم وغزوا كل المنابر الممكنة لنصوصهم وللمقالات النقدية عنهم. شخصيا التقيته لأول مرة في مهرجان ربيع القيروان عام 1995 : شاعر يغلب عليه الحياء واللطف وقلة الكلام عن نفسه .والتقيته فيما بعد مرارا في مهرجان جرش الثقافي حيث كان عمودا من أعمدة المهرجان وداعما من داعميه وواحدا من أسرته المحبة. لذلك قام الأصدقاء الشعراء والأدباء بإيفاء الشاعر حقه: الشاعر الذي آثر تجاربهم على تجربته ودعمهم دون حدود معترفين له بمناقبه وبجميله غير المحدود على الشعر والنقد الثقافي والعطاء. إن ما يشبه مظاهرة الحب والاحتفاليات التي قامت بها جهات رسمية عدة وأدباء تهافتوا بشكل جميل وصادق وراق إنسانيا وأدبيا مثل نوعا من تنقية المناخ النفسي الثقافي الأدبي في ربوعنا العربية وهذا في حد ذاته إنجاز قيمي مهم يُذكر الجميع أننا كلنا سنكون فريسة للمرض وكلنا راحلون مهما أطلنا الحياة وأنه لا شيء أقوى ولا أجمل من أن نعترف للمبدع بأنه أبدع وأعطانا من كيانه فكان سخيا مع الغير دون حدود. وإذا كان أمجد ناصر قد ارتفعت الأصوات لتمجيد صوته الشعري وهو يقاوم المرض فإن ما يجب التفكير فيه حقا هو القطع مع ثقافة الجحود مع المبدعين لأن ممارسة الإبداع هي أرقى أنواع السخاء والكرم ولا يجوز أن تقابل بالجحود: مهم أن يسمع الشاعر عبارات الإشادة وأن يشعر بامتناننا له كي لا يتملكه الشعور بالظلم والقهر ونكون بذلك مجتمعات مثل القطط تأكل مبدعيها. هكذا تسقط الراية البيضاء التي رفعها أمجد ناصر أمام المرض القاهر. وهي تسقط لأن الشاعر كتب جداريته وكتب معركته مع المرض العدو وأغلب الظن أن من يواصل الكتابة وهو في قلب المحنة والألم إنما هو يمارس الحياة بكل عنفوان وقوة لأن الكتابة فعل حياة وعلامة أمل. شكرا لأمجد ناصر الذي لم يصمت وباح لنا بمحنته فسمح للمشهد الأدبي بأن يتطهر ولو قليلا وأن تهب فيه نسائم الحب والتقدير والاعتراف. لقد عرفت أيها الإنسان الخجول والشاعر المدهش دون قصد منك كيف تحرك المياه الراكدة وكيف تتدارك الظل بمديح الشمس العالي.