بقلم: رائف بن حميدة قسّمتْ محاكمةُ المتورطين في جريمة اغتيال صالح بن يوسف،التي بدأت بالعاصمة منذ شهر،الرأيَ العامَ بين مؤيّد ورافض. و لكلٍّ مبرّراته. فالمعارضون يعتبرنها غير قانونية متعلّلين خاصة بمبدأ سقوط الدعوى العمومية بموجب وفاة المدّعَى عليه.أما المؤيدون فيتعلّلون بدستورية العدالة الإنتقالية ومنها هيئة الحقيقة والكرامة التي جُعلت خصّيصا للمكاشفة ولمحاسبة الإنتهاكات التي وقعت خلال الفترة التي تمتد تقريبا بين تشكيل أول حكومة إستقلال وسقوط حكومة الترويكا. وفي رأيي المحاكمة القضائية لبورقيبة غير لائقة وغير معقولة،فهي بكل بساطة توحي ب»الندم على الإستعمار»!! فكل مساوئ حكمه لا يمكن أبدا أن تحجب نضاله الكبيرمن اجل الإستقلال!. فبورقيبة ،رحمه الله وغفر له، كرّس حياته وجهده ووجدانه للإستقلال ثم لبناء الدولة والنهوض بالمجتمع بإسلوب منفتح عصري الذي كان يسميه بشكل متكرر «الجهاد الأكبر» تيمّنًا بحديث نبوي شريف(ولقد استثمرها بعض المتزلفين فأطلقوا عليه تسمية «قائد الجهادين»..لكن تسمية- المجاهد الأكبر- كانت صوت من خضم معركة النضال الأوّل الذي فيه عرّض بورقيبة نفسه لأخطار كبرى منها حتى الإعدام أو الإغتيال.بورقيبة كان يحمل مشروعا كبيرا وقد حقق منه الكثير بنجاح ملحوظ،لكن حكمه بدأ يختل منذ فشل التعاضد الذي تلاه «عصر الإنفتاح» فبرزت فيه طبقة جديدة من الإنتهازيين والكمبرادور والمتزلّفين.وفي تلك المرحلة بدأت صورة الحزب الدستوري تتشوه، فقد صار الإنتماء الجديد إليه تغلب عليه المصلحة الشخصية والإنتهازية .فضاعت الوطنية الحقة وتسبب هذا حتى في التفاوت الجهوي الى درجة أن انقسمت البلاد في عقول بعض المرضى الى «ما قبل البلايكْ وما وراء البلايكْ» وهي عبارات فاسدة مازالت سارية ( انظر مقالي:الشروق، الزعيم بورقيبة بالأرقام)! فانحسرت شعبية الحزب الإشتراكي الدستوري وبدأت تتكاثر الإتجاهات المعارضة والإنتفاضات الشعبية التي رفعت فيها شعارات « يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب» وكانت الجماهير تواجَه بالقمع ليسقط مئات الشهداء ويُزج بأعداد كبيرة من المواطنين ومن قيادات إتحاد الشغل الى المحاكم، ومنهم الحبيب عاشور(رغم أنه كان من ابرز المساندين له في مؤتمر صفاقس الذي حسم الأمرُ لصالحه رغم موقف بورقيبة الضعيف بسبب الجامعة الدستورية بالعاصمة التي كانت منحازة لبن يوسف ..وبن عاشور هو أيضا الذي استقبله بمنزله حين رحلته الى المشرق ربيع 1945)!. إنّ من أكبر مساوئ بورقيبة هي أنه كان يعتبرنضال رفاقه «ثانويّا» بمن فيهم المقاومين الذين كان يسخر أحيانا من بعضهم!فجريمة إغتيال صالح بن يوسف في الحقيقة تخفي غابة كثيفة من المظالم في حق المناضلين و المقاومين،ومن هؤلاء نذكر، من الشمال الغربي، المقاوم الكبيرالطيب الزلاق،الذي رغم أنه سلّم نفسه مطلع مارس56 حُوكم بالإعدام ونُفذ فيه شنقا!وكذلك،من دوز، الهادي قدورة تم شنقه في السنة الموالية.وكذلك عبد الله البوعمراني من قادة المقاومة بالجنوب الغربي،والطاهر الغريبي الذي حُكم غيابيا بالإعدام لكنه فر الى ليبيا ولم يعد إلا بعد ازاحة بورقيبة ! وفرّ أيضا الى ليبيا المناضل الكبير الوطني والقومي بحق ،حسين التريكي وقد توفي في 2012 بالأرجنتين.هذا ناهيك عن المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة..والغريب أننا إذا رجعنا الى سبب حمل هؤلاء المقاومين «للسلاح دون رخصة» نجده بكل بساطة إستجابةً منهم لقادة الحزب وعلى رأسهم بورقيبة لثورة جانفي 1952 الذي تم لاحقًا اعتماده -عيد الثورة-..وكل هذا «نسيه» بورقيبة وشكّل لهم محكمة مخصوصة ليكون مصيرهم من الجبال الى الحبال!أما التهمة فكانت «التآمر ضد أمن الدولة والانضمام إلى عصابة متمردين ومسك السلاح دون رخصة» ولكن في الحقيقة كانت بسبب الإنحياز لبن يوسف! (خلال المحاكمة قال بعضهم إننا لم نكن نفرق بين بورقيبة وبن يوسف،وإنما كنا نظن بورقيبة «الوجه الدبلوماسي التفاوضي» وبن يوسف «الوجه العسكري»)..وبورقيبة نفسه كان يقر بمشروعية إنشقاق بن يوسف ورفضه للإستقلال الداخلي فقد قال أواسط السبعينات في محاورة مع كاتب فرنسي نشرها في كتابه BOURGUIBA قال له :لقد كان رفضهم مبرَّرًا حين يقولون :( أي إستقلال والقوات الفرنسية بالثكنات التونسية؟؟ إنها خطوة الى الوراء!!..). بن يوسف كان بكل تأكيد يخطط لنفس الجريمة، إلا أنّ الأجدر ببورقيبة كان التصالح معه في تلك المرحلة الخطيرة( احداث بنزرت!) وليس انتهاز الفرصة لإغتياله! لاسيما وأن بن يوسف كان حينها في موقف ضعف وغُبن وحرمان من تاريخه النضالي بعد حصول البلاد على الإستقلال التام، فلو فعل بورقيبة ذلك لكان جنب البلاد تصدّعا مزمنًا!.. وقد يقول قائل : «بعد الحصول على الإستقلال الكامل كان بن يوسف هو الأولى بطلب الإعتذار» ! فنقول: نعم هذا صحيح ،لكن لولم يستعجل بورقيبة بتنفيذ الإعدامات ! الحقيقة بورقيبة كان شديد القسوة ضد كل من يخالفه الرأي اوحتى ضد من يرتكب خطأ! فقد نكّل بالعائلة الحسينية وحرمهم من ابسط مقومات العيش الى درجة أن فيهم من اضطر الى الإسترزاق بالأعمال «الوضيعة»( الضباط الأحرار بمصر لم يجرّدوا الملك فاروق من الكنوزالكبيرة قبل رحيله بالباخرة،بل أدّوا له أيضا التحية العسكرية تحت طلقات المدفعية بحسب المراسم المعهودة!..أما إثر نكسة67 فقد حمّل عبد الناصر نفسه مسؤوليتها لوحده دون غيره( بحسب التصريح التنازل الذي كتبه واذاعه حسنين هيكل، وكان بإملاء منعبد الناصر، والتنازل كان سيقع لولا خروج الجماهير الرافضة في مصر وفي كل بلاد عربية!).ولا ننسى أيضا سجنه للطاهر بن عمار(الذي بيده وقّع على الإستقلال الداخلي! فحين همّوا بوضع القيود في يديه قال مستنكرا : هذه هي اليد التي وقّعت استقلال بلادكم! ) ثم ايضا سوء معاملته لمحمد مزالي ولعائلته، وخاصة احمد بن صالح الذي إتهمه بالخيانة العظمى وحُكِم بالإعدام رغم أن بورقيبة والديوان السياسي كانوا مستبشرين مقتنعين بفكرة التعاضد بدليل خطابه الطويل ب-مؤتمر المصير- الذي تمت خلاله إضافة إسم الإشتراكية للحزب.لكن بعد الفشل جعل بورقيبة من احمد بن صالح كبش فداء كما قال الهادي البكوش في مذكراته( ورغم كل هذا فتجربة التعاضد تؤكد إخلاص وحب بورقيبة للشعب، وتؤكد أيضا براءته من العمالة والتبعية للمنظومة الرأسمالية العالمية التي يتهمه بها المزايدون!). وفي الختام والخلاصة: مساوئ حكم بورقيبة لا يمكن أبدا أن تحجب نضاله الكبير من اجل الإستقلال وبناء الدولة والنهوض بالشعب.وعلى كل حال الجرائم التي حدثت خلال عهده،او حتى خلال العهد النوفمبري، لا تساوي شيئا مقارنة بما حصل زمن حكم الترويكا التي هي أولى بالمحاكمة !. (أنظر مقالي: الشروق،هل تحتاج تونس هيئة 2 للحقيقة والكرامة!؟)أما دكتاتوريته ونفوره من التعددية الحزبية فقد بينت الآن الأحداث صواب رأيه 100 % حيث ضاعت الإرادة الوطنية وصارت البلاد ( وبإسم ديمقراطية مستوردة ،وهي اصلا ديمقراطية إجرائية شكلية ) معبثًا للصراعات الحزبية ولكل من هب ودب من المغامرين والإنتهازيين والشعبويين الذين يسعون الى شراء ذمة الشعب بكلمات مخادعة أو بوعود كاذبة أو بمساعدات مغرضة !!..هذه المحاكمة تُعَدُّ نكرانًا للإستقلال في حد ذاته، فالمفروض إذن هو إلغاؤها والإكتفاء فقط بمحاكمة أدبية لتصحيح كتابة التاريخ.لكن المشكل هنا أننا سنصطدم بعائق «البورقيبين الجد» الذين لا يقبلون بتصحيح التاريخ بإعتباره «الثالوث المحرّم»!هم يرفضون كشف الجروحُ للشمس وللهواء النقي ويريدون للجروح أن تبقى «تحت الفاصمه بقيْحها ودودها»...! وطبعا هذا مجرد توظيف سياسي حزبي لرمزية بورقيبة ك»أصل التجاري».ففي الحقيقة هي من بارك الإطاحة به ووضعه في الإقامة الجبرية وإسقاط تماثيله ونسيانه بإسم « صانع التغيير المبارك»!...إن من يؤمن بحق بالفكر البورقيبي عليه إن لا يصدّع البلاد بالتحزّبات، وإنما يتمسك «بالوحدة القومية الصماء»(وفي الحقيقة هنا يستوي الصادقون الحقيقيون سوى من الفكر البورقيبي او من الفكر القومي أو من الهدي الإسلامي...أنظر مقالي بصحيفة الصريح: كيف ننقذ البلاد !).