بعد انقضاء عام واحد على الانتخابات البلدية يكاد يترسّخ الانطباع أن الناس لن يتذكروا في نهاية هذه المدة الانتخابية من فوّضوا لإدارة شؤونهم اليومية نتيجة التغييرات المتسارعة للمجالس البلدية. «الشروق» تونس: وفي السياق ذاته تتحمل الدولة في كل يوم نفقات جديدة لتشكيل مجالس جديدة في خضم تواتر حل المجالس بسبب استقالة رؤساء البلديات او أغلبية أعضائها. وبالنتيجة فإن منطق «حماية الثورة» الذي أظفى شرعية على انزلاقات حادة أضعفت أعلى هرم الدولة وأغرقت البلاد في أزمة مالية خانقة يُعاد اليوم بشكل مختلف على الأرض ليضع حياة الناس والتسلسل الهرمي للسلطة في أتون المجهول لأن المجالس البلدية انطلقت عرجاء وبمعنى أدق فإن ظرفية الانتخابات البلدية الأخيرة التي شكلت ذروة التصادم بين يأس المواطن من تغيير حقيقي تصنعه صناديق الاقتراع وإفلاس الاحزاب زرعت من البداية بذرة عدم استقرار المجالس البلدية التي تشكلت من فسيفساء هجينة تتعارض بطبعها مع وحدة المجلس البلدي في تعاطيه مع مشاغل الناس ومن ثمة الاضطلاع بمسؤولياته في تسيير جملة من المرافق العامة وفرض معايير التعايش الجماعي. تقسيم تونس كما يبدو جليا ان ما صنعته الظرفية السياسية للانتخابات قد اكملته المجلة الجديدة للجماعات المحلية التي كرّست في أذهان المجالس البلدية من البداية فهما مغلوطا للعمل البلدي زاد في تجذير منطق الغنيمة في التعاطي مع إدارة الشأن العام كما صنع شرخا عميقا في التسلسل الهرمي للسلطة يربك بالنتيجة مسؤولية سلك الولاة في تعبئة Mobilisation للامكانيات الجهوية في مواجهة استحقاقات لها علاقة مباشرة بحياة الناس وصورة البلاد في عيون زوّارها الاجانب مثل نظافة المحيط ومكافحة التجارة الموازية ومجابهة الكوارث الطبيعية وبالنتيجة فإن تطبيق مجلة الجماعات المحلية زاد في تكريس انطباع سابق بكوْنها استنساخا لقانون «بريمر» لتقسيم العراق من خلال تكريس مفاهيم تحوّل البلاد الى مجموعة مقاطعات مستقلة بذاتها في تعارض حازم مع مفهوم وحدة النظام Le systeme وهو ما يؤثر بشكل مباشر على فاعلية السلطة التنفيذية في إدارة الأزمات او مراكمة مكاسب جديدة لسائر فئات المجتمع. الوالي ساعي بريد بل إن أغرب ما كرسته هذه المجلة هو تحويل رأس السلطة على الصعيد الجهوي وهو «الوالي» الى مجرد ساعي بريد حيث لا يملك من سلطة لدرء انحرافات المجالس البلدية عن مقتضيات الصالح العام عدا «التظلم» الى القضاء الاداري وهي سابقة في العالم بأسره اذ ان الشائع هو ان يتظلم الذوات أفرادا أو مؤسسات من الدولة وليس العكس. استنزاف مالي ومن جهتها تحولت الخلافات داخل المجالس البلدية والاجراءات القانونية لحل المجالس البلدية بفعل استقالة أغلب الأعضاء عامل استنزاف لجهد ووقت الولاة. وبالنتيجة فإن جوهر مجلة الجماعات البلدية لم يخرج عن مرجعيات دستور 2015 الذي فكك السلطة وكرس بدوره منطق «حماية الثورة» الذي كان مجرد مساحيق غطّت عدائية واضحة لمفهوم الدولة الوطنية وهو ما يجعل مجلة الجماعات حلقة مفصلية في مسار مراكمة أسس مجتمع الفوضى والجهل والتخلف الذي قد يكفي لاختزاله مشهد ملايين الكلاب السائبة التي تجول في الشوارع مثل البشر وعلى الضفة المقابلة زادت مجلة الجماعات في تكريس منطق الغنيمة في إدارة الشأن العام من خلال سابقة تشريعية تونسية تتمثل في منح رؤساء كل المجالس البلدية مهما كان عدد سكانها حق التفرّغ وهو ما يجعل راتب رئيس البلدية ومنحة النائبين الأول والثاني تتجاوز ميزانيات التصرف للبلديات الصغيرة. وبالمحصلة فإننا إزاء مجالس بلدية تكرس منطق «لعب العيال» في التعاطي مع استحقاقات بالغة الأهمية تعد أهم معيار في علاقة الناس بالسلطة و«مفهوم الدولة» كما ان الغطاء التشريعي الذي تعمل تحته يشكل مغامرة خطيرة بمستقبل تونس ان يمكن لأي مجلس بلدي ان يلقي بأموال البلدية المتأتية من الدولة والمواطن في مشاريع ليست لها أية مردودية تؤدي الى إفلاس البلديات ومن ثمة عجزها عن الاضطلاع بأبسط التزاماتها... بل إن التجربة أكدت الى حد الآن ان العوامل التي أنجبت المجالس البلدية المنتخبة قد أفقدت عديد البلديات الحد الأدنى للنجاعة الذي ضمنه التسلسل الاداري في البلديات لمدة ثماني سنوات وذلك بفعل الفسيفساء الحزبية للمجالس المركبة بطبعها لسير الادارة البلدية والاختلافات بين هذه الأخيرة التي تحتكم لنواميس الادارة والأعضاء المنتخبين الذين يستندون الى مقاربات سرْيالية. وبالمحصلة فإن ما يحصل اليوم في البلديات سيتفاقم أكثر مع مرور الأيام هو طور متقدم في المسار السياسي او ما يسمى «الانتقال الديمقراطي» الذي أظهرت التجربة انه ليست له اية نهاية غير الطريق المسدود والفوضى التي قد تختزلها فضيحة اعتراض مجلس بلدية باردو المنحل على مشروع القطار السريع الذي شارف على نهايته وتكبدت المجموعة الوطنية نحو 800 مليون دينار لإنجازه.