إذا كانت الديمقراطية تقوم فيما تقوم عليه على الانتخابات وعلى حق المواطن في اختيار حكامه وممثليه في المجالس النيابية والمحلية، فإن إقبال المواطن على ممارسة هذا الحق يعد بمثابة القاعدة الذهبية التي لا تستقيم بدونها اللعبة الديمقراطية... لذلك سميت العملية الانتخابية عرسا انتخابيا وحين تنظم انتخابات يغيب عنها المواطن فإن الأمر يكون شبيها بعرس حقيقي يغيب عنه العروسان وأهالي العروسين وما جرى في الانتخابات الجزئية لبلدية باردو يوم أمس الأول كان عرسا انتخابيا من قبيل الأعراس التي تجرى في غياب جماعي لتتحوّل العملية إلى أشبه ما تكون بمقابلة كرة قدم تدور بدون حضور الجمهور. لماذا حدث ما حدث؟ وكيف يمكن تجاوز آفة عزوف الناخبين خاصة والبلاد مقبلة على محطتين انتخابيتين تشريعية ورئاسية سوف تكونان مصيريتين في تحديد مستقبل تونس في قادم السنين؟ *** قبل محاولة الإجابة لا بدّ من العودة إلى ذلك التعريف الأولي للعملية الانتخابية التي تستند إليها حياة سياسية ديمقراطية تحكمها التعددية ويكون فيها صوت المواطن هو المحدّد بواسطة صندوق الاقتراع. يقول ذلك التعريف بأن الانتخاب حق وواجب. بمعنى أن حياة سياسية ديمقراطية يتم فيها التداول على الحكم في أي مستوى كان بطريقة سلمية من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وكذلك من خلال إتاحة الفرصة للمواطن للإدلاء برأيه من خلال صوته بكل حرية وشفافية ونزاهة... لذلك فإن العملية لا تستقيم في غياب المواطن وبالتالي في غياب صوته الفاعل والمؤثر. كما أن العملية الديمقراطية برمتها تفرغ من محتوياتها ومضامينها إذا تخلّف المواطن عن القيام بواجبه الانتخابي الذي يرتبط ارتباطا عضويا ومصيريا بحقّه الانتخابي. *** وبعبارة أخرى فإنّ العملية السياسية المستندة إلى الديمقراطية كأساس لتكريس مبدإ التعدّد وحق الاختيار تختل بالكامل إذا أدار المواطن ظهره لتلك المعادلة البسيطة التي تقوم عليها العملية برمتها والمتمثلة في حق الانتخاب وواجب الانتخاب. وهي المعادلة التي يبدو أن الكثيرين من التونسيات والتونسيين لم يقتنعوا بها بعد.. بل يبدون إزاءها نوعا من اللامبالاة التي تؤسس لنوع جديد من الديكتاتورية القائمة على تكتل جماعات دينية أو عرقية أو على سطوة لوبيات مهنية أو مالية تتمكّن من خلال حشد وتجييش مجموعات محدودة من أن تصبح أرقاما محدّدة في المجالس النيابية والمحلية بشكل يمكنها من أن تصبح فاعلا أصيلا وأساسيا في الحياة السياسية والبلدية والحال أنها لا تملك في المجتمع ذلك الامتداد الحقيقي والعمق الجماهيري الذي يفترض أن يعطيها حق التواجد والفعل والتأثير في حياة مجتمع ما... *** وعودة على ما جرى في الانتخابات الجزئية لبلدية باردو وما شهدته من عزوف محيّر تجلّى من خلال ذلك التدني الفظيع لنسب المشاركة في عملية انتخابية يفترض أنها أتت استجابة لطلب ملحّ وهدفت إلى تصعيد قيادة جديدة يتم من خلالها إعادة رسم الخارطة السياسية صلب تركيبة المجلس البلدي فإن ما حدث يعدّ عبارة عن صيحة فزع قبل حدوث الطامة الكبرى في المحطة الانتخابية التشريعية والرئاسية التي تستعد لها البلاد بعد أسابيع معدودة.. والمطلوب هو الانكباب الحقيقي والفاعل على دراسة أسباب وانعكاسات هذا العزوف الذي يعد في نهاية المطاف أسلوبا من أساليب التعبير التي يحاول المواطن من خلالها ابلاغ عدم رضاه عما يجري حوله ورفضه لأداء النخب والشخصيات والأحزاب السياسية... أسلوب يقول من خلاله المواطن أن واقعه وهمومه وانتظاراته وطموحاته في واد وما تبديه وما تقترحه النخب والأحزاب السياسية في واد آخر.. والمطلوب هو أن تسارع النخب والأحزاب إلى استخلاص العبر والدروس المستفادة وأن تعمد إلى تغيير أدائها بصفة جذرية لتعيد جسور الثقة مع المواطن وتحرك فيه الشعور بالانتماء والحرص على بناء شيء مشترك... هذا من جهة الأحزاب والنخب الحاكمة، أمّا من جهة المواطن فما يجب أن يفهمه هو أن العزوف لا يغيّر شيئا والمقاطعة لا تبني شيئا واللامبالاة لا تفضي إلى بناء مستقبل أفضل. وما يجب أن يعيه المواطن هو أن سلبيته لن تسهم في تغيير الواقع الذي يرفضه ويتبرّم منه نحو الأفضل... بل على العكس فإنه بسلوكه السلبي هذا وبعزوفه هذا يعبّد الطريق للصوص السياسية ولوبيات المال الفاسد حتى تزيد من سطوتها ومن سيطرتها على مقاليد الأمور وبالتالي التحكم فيه وفي مستقبله ومصيره مستندة إلى شرعية انتخابية مغشوشة أهداها له المواطن بسلوكه السلبي وباستقالته من ممارسة حقه وواجبه الانتخابي... هذا الحق والواجب الذي يفترض أن نتجه نحو إعطائه مضمونا قانونيا يفضي إلى فرضه وإلى إعطائه قوة القانون من باب الحرص على تحفيز المواطن ودفعه إلى الانخراط في الشأن العام وكذلك من باب حماية المسار الديمقراطي من كل الانحرافات ومن سطوة الجماعات أو اللوبيات حتى تعبر البلاد هذه الفترة الصعبة ويترسخ على الميدان مبدأ المواطنة بمعنى المشاركة في الشأن العام بما فيها ممارسة الحق والواجب الانتخابي بكل وعي ومسؤولية.